محمد الزير
أخفت جرحها الدفين وحفنة الحقد التي زرعها، من ظنَّ يوماً أنَّه ربُّها الأعلى؟! لم تذق طعم النور يوماً، أمضت جلّ شبابها دفينة الجدران وأنيسة الظلام …
ملَّت من منفاها، وقررت تلك اليتيمة أن تفكّ قيدها وتخرج عن صمتها، وتفكّ عَصبة الظلم التي غطَّت عينيها الخضراوين.
لم تكن تعلم ماذا يخبئ الدهر لها، لم تعتقد حين تمالكت قوتها ونهضت أنَّها ستغدو فريسة أو أنَّها ستفقد طهرها أو أنَّ أحد الأشرار قد يلوث جمالها.
نهضت رغم آلامها، لم تكن خائفة رغم يقينها بأنَّ رجالات الشر ستجتمع عليها وتحاول أن تعيدها إلى سجنها حيث تكره.
بخطى متأرجحة وصلت إلى باب سجنها، حركت أناملها للمرة الأولى وأمسكت بقبضة السجن وفتحت باب عزلتها، وخرجت إلينا تحمل ماضٍ من الجراح.
استنشقت أوَّل أنفاسها بعيداً عن العزلة، فقد خرج كلُّ شباب حينا ليروها معلنين عن لحظة حرية بتاريخٍ مليء بالقمع والدكتاتورية.
لم تأبه للرصاص الذي كان يمرُّ بين نقي حروفها، فقد لبست منذ يومها الأول ثوباً أبيضَ معلنةً الموت في سبيل القضية.
نعم الموت في سبيل الحرية، لا يمكن أن أنسى صورتها عينيها، ضفائرها الذهبية،فغدت من سجينة إلى معشوقةٍ أبدية.
أتذكر أنَّ شباب الحي في كلِّ جمعة كانوا يهتفون لها، صاحوا: ثورة وحرية،بذلوا لها الدماء، وسقط من أجلها شهداء الحرية.
خافت تلك اليتمة، وحاولت مراراً أن تعود إلى سجنها وتنأى عن درب الحرية،لم توقفها قدماها فحسب، بل أوقفها شباب التغيير، شباب ثورة الكرامة، ثورة الأكثرية.
حاصرها الطغاة، وغيّروا بنظر الجهلة مفهوم الحرية، نعتوها بالعهر وأبشع الكلمات السوقية، فأذاقوها أشد أنواع الاستعمار والوحشية، لم يكتفوا برصاص البندقية، بل أخرجوا مدافعهم وطائراتهم ودبابات حماية الجولان الوردية، وبدؤوا بالتخريب والتدمير، فكان مسقط رأسها أول ضحية، ليخرج شبابها بصدور عارية يواجهون قصف المدفعية وبضع بندقيات خجلة وطلقات تعبة، واجهوا الإجرام والإمبريالية،فغدوا بين قبور، أو بين منافٍ صُنعت للمجرمين لم تصنع لطلبة الحرية.
كبرت تلك الفتاة وأَبت أن تزيح وتنحني عن ربيعٍ معبَّد بياسمين الشام الذي لم يترك عبر الأزل مستعمرا غاشما …
لم تكن تحلم بالدم أو الظلام، فجلّ أحلامها ورودٌ ورحيقٌ ووطن خالٍ من وحوش الأحلام، خالٍ من براسم الإجرام، يتخذ الحرية دستوراً، والربيع قانوناً، يقدِّس الأطفال، يحترم الإنسانية، يسمح لمن يسكنه بحقه بالعيش في الأمن وبالأحلام.
لم تكن الثورة ظلاميّة سوداء، بل كانت تحمل في طياتها شعاع النور الذي طالما أخفته عن ناظرنا أعينُ المخابرات وخفافيش الظلام.
الكرامة عنوان مقدّس لأولى صفحات كتبِ الثورة وكتبِ التاريخ النظيف الذي يخلو من إنجازاتٍ وهمية وانتصارات خلّبية، يكتب فقط عن ثورتنا، ثورة العدل والحرية.
بسمك اللهم ثورة