زمرد أبو زيد
خلق الله اﻹنسان حرا كريما، وجعله مختارا مكلفا، وأرشده إلى ما يحفظ به حياته وإنسانيته، وأقر له حقوقا تكريما له وتفضيلا على سائر المخلوقات، فمصطلح حقوق الإنسان متجل عمليا في الحياة اﻹسلامية قبل أن يظهر عند الغرب، إذ له آلياته وقواعده.
وقد نشأ مفهوم حقوق الإنسان في الغرب بعد صراعات دامية وحروب أكلت اﻷخضر واليابس وامتهنت كرامة العنصر البشري وحطت من قيمته وخيمت مأساتها على عدد كبير من الضعفاء والمظلومين، وقد جاء ليضع أسسا جديدة في الحياة، وليضع قواعد العيش المشترك التي تنظم العلاقات بين اﻹنسان وأخيه اﻹنسان، إلا أنَّ مواثيق تلك الحقوق استمدت من الجذور الفلسفية التي يتبناها الغرب في رؤيته للكون واﻹنسان، ثم تركت لتفسر تفسيرات مختلفة أطلقت الغرائز بدلا من ضبطها وتهذيبها، ووصلت باﻹنسان إلى حدِّ التأليه، فأدت هذه المفاهيم المستندة إلى ثقافة إغريقية رومانية إلى كثير من المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي
مازال العالم يعاني منها حتى اليوم.
ولا يمكننا طبعا أن نغلق أعيننا عن منجزات النهضة الغربية على مستويات مختلفة، ولا أن ننكر ما حققه الغرب في مجال حقوق الإنسان وما قدمه من الحرية والعدالة الاجتماعية لمن يعيشون تحت رعايته من أهل جميع اﻷديان واﻷعراق والجنسيات، ولكننا نجد بعض التطبيقات المنحرفة التي تعود إلى الخلل الكامن في المنطلق غير السليم وفي المبادئ الجذرية الوثنية.
ولذلك فإننا نستطيع القول: إنَّ هناك فارقا كبيرا بين التصور الغربي والتصور اﻹسلامي لمفهوم حقوق الإنسان، وإن اتفق التصوران في بعض التجليات العملية، ويمكن أن نتكلم على أساسين مختلفين أديا إلى الاختلاف النظري والتطبيقي العملي، وهما حقيقة وجود اﻹنسان وأساس التصور.
فغاية وجود اﻹنسان على هذه الأرض وفق المنظور اﻹسلامي هي الاستخلاف، أي هو خليفة الله في أرضه، مأمور بعمارتها كل بحسب استطاعته من أجل سعادة البشرية كلها، وليحقق فيها التكاليف واﻷوامر، فهي رسالة يبلغها وعمل يؤديه وحياة موجهة للجميع من دون تمييز بين أبيض وأسود أو بين ذكر أو أنثى، لا من أجل ذاته وإشباع ملذاته وشهواته، فهو مخلوق وهناك خالق، وموجود ضمن نظام لا يجوز الخروج عنه أو التعدي عليه وإلا فسيكون هناك خلل وشذوذ وانحراف في نظام الحياة، وهذا ما لم تعره حقوق الإنسان الغربية اهتمامها، فهي ترى أنَّ اﻹنسان فوق كل شيء فلا تبحث في رسالته التي من أجلها خلق أو في المهمة التي يؤديها على ظهر اﻷرض، ولا تضعه ضمن نظام كوني محدد، فيحق له بعد كل هذا أن يسرف على نفسه بارتكاب الفواحش والمنكرات حتى يوردها إلى الهلاك، أو يضرب نظام الحياة بالمساواة بين الجنسين في كل شيء أو الزواج من نفس جنسه!
ثم يأتي اﻷساس الجوهري ترتكز عليه جميع تصورات المفاهيم في الحياة اﻹسلامية، وهو تحقيق توحيد الله والعبودية له، فاﻹنسان المسلم يضبط حياته كلها على أساس فكرة التوحيد ويجعلها ضابط فكره وعمله، وهو بهذا ينطلق من السماء إلى اﻷرض، ويتلقى من معبوده حدود حريته وما له وما عليه، وحقوقه مضبوطة من خالقه الذي يؤمن به ربا وإلها.
أما التصورات في الفكر الغربي فترتكز على اﻹنسان ولا دخل للسماء فيه، وتنطلق من مبدأ الحرية الفردية التي ألبست اﻹنسان لباس القداسة وأعطته الضوء الأخضر ليبتعد عن غاية خلقه ويضرب نظام حياته، وبسبب هذه اﻷنانية أصبحت مقررات حقوق الإنسان مجرد شعارات نظرية في غالب الأحيان، أو محايدة مترجرجة منحازة.
وبهذا يظهر جانب من جوانب الاختلاف حول مفهوم حقوق الإنسان، ﻷنَّ وجهة النظر منطلقة من فلسفة قديمة لدى الغرب، ومن عقيدة دينية لدى المسلمين، وهذا يعني اختلاف النظرة الشاملة إلى الكون وحياة اﻹنسان بمختلف جوانبها.