من سمع عن أفرع التعذيب في سجون النظام ليس كمن رأى وعاشها، (أحمد أبزاخ) شاب سوري من الجولان من أصول قوقازية (شركسية) يبلغ من العمر 23 سنة ويقطن في العاصمة دمشق بحي مساكن برزة، تم اعتقاله من قبل قوات النظام في عام 2012 بتهمة تهريب الأسلحة إلى الحي وخرج بعفو من (بشار الأسد) على حد قول قواته، يروي لنا كيف نجى من بين أيديهم بمعجزة!
“تهمة باطلة”
يبدأ أحمد بسرد قصته لصحيفة حبر بقوله: “في مساء يوم الخميس الواقع في 29/11/2012 بينما كنت أتجول في سوق الحي أتاني خبر من أحد أصدقائي أنَّ قوات النظام تقوم بمداهمات كثيفة في ذات الحي الذي أقطن فيه وتعتقل جميع فئات الشباب، وبعد أقل من عشر دقائق اتصل بي أبي فتعجبت وقلت في نفسي: (غريب! أبي عم يتصل فيني على غير العادة!)، فأجبت على الهاتف، وإذا به يقول باللغة الشركسية: (لا ترجع عالحارة لأن الأمن معبيها والاعتقالات على أفا مين يشيل)، وبعد أن طمأنت أبي بأني بخير، وبدأت بالسيرة ذاهبا إلى أحد أصدقائي بحي مجاور يدعى (ركن الدين)، وفيما أنا بطريقي إلى هناك اقتربت من حاجز لقوات النظام يقع على بعد جادتين من منزل صديقي، وحينها صرخ لي أحد العناصر الموجودين على الحاجز (هييه أنت لوين طاحش!) فأجبته وأنا متجه نحوه أن بيت جدتي بالقرب من هنا ولم أستطع أن أذكر أنَّني ذاهب إلى صديقي لكي لا يعتقلونا، وبعدها قال لي: (أي هات هويتك هات) فأعطيته إياها دون أن أتفوه بأي حرف، فنظر إليها وقال: (قعود عالرصيف دقيقتين لبين ما نفيشلك اسمك) فجلست أنتظر قدومه، وبعد دقيقتين فعلياً بدأت أسمع صوت سيارة آتية من بعيد، لكنَّها تبدو أنَّها على عجلة، وحينها التفت إلى مكان الصوت وإذ هي بسيارة لقوات النظام الخاصة مكتظة بالعناصر، وقفت بسرعة أمامي وقال السائق: (ولاك قرد هدولي هني الإرهابيين، جيبهن تقلك) فنزل من السيارة أربعة عناصر وبدأوا بسيناريو ينص على أنَّني الإرهابي الذي تكلم عنه السائق، وقاموا بضربي بكعاب أسلحتهم وبأقدامهم (مع المسبات طبعاً)، ومن ثم قاموا بسحبي إلى الباب الخلفي لسيارتهم، وعند فتح الأبواب كانت المفاجأة!”
ويضيف أبزاخ، بعد ذلك وجدت ستة شباب مقيدي الأيدي والأعين ولا يوجد مكان لجلوسي بينهم فرموني فوقهم (وصرنا متل المخلل المكبوس) وأغلقوا الأبواب علينا وساروا بنا إلى بناء فرع الأمني السياسي (فرع الجبة) في ساحة الميساة خلف مشفى أمية، وصعدوا بنا للطابق الثالث وجردونا من جميع ما نملكه (حتى شواطات البوط!)، ورمونا على الأرض وقاموا بتنبيهنا ألَّا نرفع رؤوسنا وإلا سوف تقطع!، وفي لحظة هدوء ساكنة (نادرة) دخل إلى الغرفة أحدهم وقال: (أحمد أبزاخ) فأجبته وقلبي يرتجف: (نعم سيدي) فقال: (قوم ولاك) وأمسك بي من شعري وسحبني إلى خارج الغرفة، ووقفنا بقرب نافذة تطل على الباب الرئيسي للفرع وقال لي: (شايف هداك الباب.. حابب تطلع منو؟) أجبته بديهياً: بنعم، وسألني مع من أتعامل ولماذا؟ أجبته (ما فهمت قصدك سيدي)، وكرر السؤال (مع مين عم تتعامل ببرزة البلد؟ ومن وين عم تجيب الأسلحة يلي عم تفوتها على برزة) فنظرت إليه باندهاش وقلت: (أني أسلحة عم تحكي عنها سيدي) وتوجه لي بالقول: (نحن صرلنا فترة عم نراقبك ومنعرف إيمت بتفوت وبتطلع لبرزة) علماً أنَّ حي برزة البلد في ذلك الوقت كان محاصراً من قبل قوات النظام، وهنا من شدة خوفي لم أستطع أن أنطق حرفاً، ومن ثم صفعني على وجهي بقوة لا أستطيع وصفها (كنت رح طير من الشباك) ورماني على الأرض وبدأ بالدعس على رأسي (مع المسبات).”
“أساليب وأدوات التعذيب”
وإذ بقائل من بعيد يقول: (اتركو اجا دورو) وأنا بدأت أتساءل بيني وبين نفسي عن أي دور يتحدثون؟! وبعدها أوقفني وطلب مني أن الحق به فدخلنا إلى غرفة يوجد فيها مكتب، وأمرني بالجلوس على الكرسي، وحينما جلست قام برفسي وسقطت أنا والكرسي على رأسي، وقال لي بصوت عالٍ وبلهجة العلوية الثقيلة: (قرد بدنا نقعدك وأنت إرهابي متقتل ولادنا) وصرخ قائلاً: (جاثياً ولاك) فجلست جاثياً على ركبتي وتوجه لي بالسؤال: (قديش عم يدفعولك؟ وكم دفعة أسلحة عم تفوت باليوم؟ ومين الشخص الي عم تتعامل معو؟ أبو عبدو الدوماني! ولا أبو محمد التلاوي!) فأجبته: (والله يا سيدي ما بعرف حدا من الأسماء يلي عم تقولا ومالي فهمان شيء من يلي عم تحكيه ومالي علاقة لا بأسلحة وبلا بغيرها)، وأحضر قلماَ وورقةً وطلب مني أن أعترف وأكتب كل شيء، فرفضت لأنني لا علاقة لي بما يقول عنه أبداً، وأخذ مني الورقة والقلم وكتب (الضبط) بيده كما يشاء، وأمرني أن أقوم بالتوقيع والبصم، وعندما قرأت الورقة انصدمت أنه قد كتب أنني إرهابي وقد قبضوا علي بالجرم المشهود أثناء إدخالي شاحنة ممتلئة بالأسلحة، فرفضت رفضاً تاماً التوقيع والبصم عليها.
نادى بعدها (يا عسكري خدو لهاد لعند الملازم جعفر قلو يتصرف) وجرني العسكري إلى الطابق الأرضي، وإذا بباب مقفل بإحكام يوجد على جانبه (أنترفون) قرع الجرس، فأجابوه: (مين؟) قال: (معي إرهابي بدنا نسلمو لجعفر) وفتح الباب إلكترونيا، وبدأت أسمع أصوات صراخ لا يتحملها العقل، قام بدفعي إلى الأسفل، فوجدت عدداً كبيراً من المعتقلين الشبان يعذبون من قبل العساكر بشكل وحشي بكافة أدوات التعذيب، فأخذوني إلى غرفة تدعى (غرفة الأمانات) وكتبوا اسمي وكل ما لدي على ورقة وأخرجوني إلى ساحة التعذيب وقال جعفر: (يا شباب هاد خدوه تعذيب للصبح والي ما بآجر عليه عقوبة 16) فضحكوا العناصر وتركوا الشبان من أيديهم واتجهوا نحوي وبدأوا بضربي بكافة أدوات التعذيب منها (الكرباج، عصا ملفوفة بأسياخ حديد، الصعق الكهربائي، أخمص الأسلحة) وأنا لحينها لا أصدق ما يجري وأنتظر انتهاء هذا الكابوس، لكن لم ينتهِ واستمر عدة ساعات دون توقف، حتى أنني لم أعد أستطيع التنفس، وبعد هذا الموال من التعذيب قاموا بتركي وأنا ملقى على الأرض لمدة لا تتجاوز الساعة.”
“حسن ضيافة المعتقلين”
وفي سياق ذلك يتابع أبزاخ: “وبعدها قام أحد العناصر برشي بالماء البارد، وهنا بدأت أتنفس بعمق من شدة برودة المياه وقال لي: (شو فقت يا ارهابي يا كلب.. والله لخليك تنام نومة ما تفيق بعدا) لكنني في هذه الأوقات لم أكن مستوعباً لأي شيء حولي حتى أنَّني لم أكن أسمع سوى صراخهم حولي، وفجأة ناداهم الضابط المسؤول عنهم وطلب منهم إحضاري إليه، وفعلاً أخذوني إلى غرفته وطلب منهم إغلاق الباب وراءهم ولم يبقَ أحد سوانا وقال لي: (نحن ما كنا بدنا ننزل ضيافة لعنا بس أنت ما وقعت ولا بصمت على اعترافات خط إيدك وأجبرتنا) مع العلم أنَّني لم أكتب شيئاً بخط يدي، ومن ثم قلت له: (والله يا سيدي أنا ما كتبت شيء بإيدي ولا اعترفت على شيء لأني مو عامل شيء ومو متعامل مع حدا)، وبعدها غضب مني وأعادني إلى ضيافتهم في تلك الساحة يوما آخر، وفي الصباح قاموا بإحضار وجبة فطور (الحِجار أطيب منها) وعند انتهائنا من الأكل وجه لي أحد العناصر (شو لسا مُصر ما تعترف) فلم أجبه لأنني لم أكن أستطيع الكلام.”
“الاعتراف أو الشبح”
“سمعتهم يتشاورون فيما بينهم بأنه لم يتبق لاعترافي سوى آلة تعذيب واحدة وهي (الشبح) وأغمى عليّ حينها، وعند استيقاظي وجت نفسي واقفاً مقابل باب حديدي ويداي مربوطتان في الأعلى وأسفل قدماي يوجد ماء مثلج وكان يتم تجديده كل ساعة كي يبقى بارداً، وكانوا كل ساعة يأتون ويقومون بصعقي بعصاة الكهرباء وبقيت مشبوحاً على هذا الحال لمدة يومين متتاليين لا أسترح سوى دقيقتين أثناء تناولي كل وجبة، وبعد انتهاء تلك المدة قاموا بأخذي إلى أحد الجماعيات (زنزانة جماعية) وعند دخولي كنت بحالة معروفة بين المعتقلين أنني (فاصل) أي لا استطيع سماع أحد ولا إطاعة أي أمر، وسارعوا بمد جسدي على الأرض وإطعامي وتركي أنام، فبقيت نائماً ليومين متتاليين وعند استيقاظي وجدت نفسي في مكان لا أذكر متى دخلت إليه، وبدأت الأسئلة من المعتقلين تتوالى علي ولم أستطع الإجابة على أي سؤال، وأثناء وجودي هناك تعرفت على أشخاص (دكاترة ومهندسين وقضاة) عدا عن وجود المسنين والأطفال القُصَّر، ودامت المدة 35 يوماً، وفي يوم الأربعاء بتاريخ 8/1/2013 في تمام الساعة الخامسة فجراً فُتح باب الجماعية بشكل مفاجئ وإذا بعميد الفرع قادم إلينا ومعه ورقة فتعجبنا من قدومه لأنَّها كانت المرة الأولى التي نرى فيبها عميد الفرع، وصرخ أحد الضباط حينها (الكل واقف ويفتل وجهو عالحيط) ومن الطبيعي أن نقوم بذلك.”
“عفوٌ من سيادته!!”
وفي ختام لقصته يقول الشاب (أحمد أبزاخ): “قال العميد (الي بيسمع اسمو بجيب غراضو وبيطلع لبرا بدون صوت) وبدأ بسرد الأسماء، وكان اسمي من بينهم، وخرجنا حينها إلى ساحة وقاموا بتقييد كل اثنين معاً، وتفاجأنا بأنَّ أحد العساكر قد قام بإحضار ما قاموا بأخذه منَّا في غرفة الأمانات وسلموه لنا، وعندها اكتشفنا إما سيتم الإفراج عنَّا أو سيتم نقلنا إلى فرع آخر (وهنا المصيبة)، وقال العميد: (يا شباب سيادة الدكتور بشار الأسد أطلق عفو عالمعتقلين الموجود بفرع السياسية وإن شاء الله تكونوا تربيتو وما عد ترجعوا لهي القصص) مع العلم أننا كنَّا قد سمعنا قبل فترة أسبوع أنَّ الجيش الحر في منطقتي دوما وحرستا قد قام بأثر 46 عنصر إيراني وأنَّه سوف يطلب من النظام عملية مبادلة تقتضي بالإفراج عن 2500 معتقل في سجونهم، وأخرجونا من هذه القاعة وإذا بالشام تلبس ثوبها الأبيض (السماء تثلج) وبدأ تلفزيون الدنيا بتصوير عملية الإفراج عنَّا لحظة بلحظة، بينما كان مقابل هذا الفرع حشد كبير من أهالي المعتقلين ينتظرون خروج أبنائهم، لكن مع الأسف عائلتي لم تكن بينهم لأنَّهم لغاية تاريخ خروجي لم يعلموا أين أنا!”