إنها مآذن الحي تنادي على طفل صغير ضائع، فذكرني “غيث” ابني البالغ من العمر 13 عامًا قصة ضياعه في معبر بستان القصر حين زرت حلب برفقة أولادي الثلاثة، وذلك بعد شهور من مغادرتنا لها بسبب خطورة موقع بيتنا في حي “جب الجلبي” الفاصل بين حيي الإذاعة والزبدية وبين المعارضة والنظام.
بدأت الحكاية حين قررت المجازفة وتسوقَ بعض المواد الغذائية من معبر بستان القصر، بسبب غلاء المواد الغذائية في أسواق حلب الغربية، وإغلاق فصائل المعارضة المعبر الواصل بين شطري المدينة الشرقي والغربي لأسباب أمنية، وكان يُسمح بإدخال بعضها بكميات قليلة.
تفاجأت بحجم معاناة الناس ونفاذ كثير من السلع الغذائية من الأسواق، حيث بقي أطفالي مدة أسبوع بلا فاكهة ولا خضار إلا ما ندر، كان يشتريها زوجي بأسعار خيالية، إذ بلغ ثمن ربطة الخبز 900 ل.س.
في الصباح الباكر استقليت سيارتين حتى وصلت إلى المعبر برفقة غيث كان عمره 7 سنوات، دون أن أُعلم زوجي المعارض للفكرة نهائيًا، له عذره فهو مريض قلب ولا طاقة له في تحمل هذه المخاطرة، كانت المنطقة مزدحمة تعجُّ بالناس ذهابًا وإيابًا ومرصودة من قبل قناصي قوات النظام الذين يتمركزون في القصر البلدي ومبنى الإذاعة ومئذنة جامع الرئيس، جميع الناس يركضون بسرعة، حاولت أن أبقى في المنتصف كيلا تصيبنا طلقة من أحد القناصين حسب اعتقادي.
مررنا بسلام ووصلنا إلى السوق بأنفاس كادت تنقطع رعبًا وتعبًا، في وسط الطريق مررنا بمتاريس رملية وبعض السيارات المعَطّلة التي يهرول بينها رجال ونساء من مختلف الأعمار.
رغم الصعوبات تسوقت احتياجاتي برفقة ابني الذي كان يمشي بمحاذاتي مسرورًا وهو يحمل بعضًا من الفاكهة التي يحبها، أمسكت بيده جيدًا حتى لا يضيع مني في زحمة السوق، تبضعت كل الأشياء اللازمة من خضار وفاكهة وخبز بأسعار زهيدة وكنت بغاية السعادة لأنني أنجزت عملا ًلم يتجرأ زوجي على إنجازه.
طمأنت نفسي وابني بأن طريق العودة سيشبه طريق الذهاب ولا داعي للخوف، وطلبت منه ألَّا يفلت العربة التي كان يجرها شاب صغير مشينا بمحاذاته وساعدني بحمل بعض الأغراض في عربته، بدأنا الهرولة في بداية الطريق، رأيت شابًا يمشي بجواري يحمل والدته العجوز بين ذراعيه يتصبب عرقًا وآخرين يحملون أطفالاً وأغراضًا وسلعًا، المارة ما زالوا يركضون في اتجاهين مثقلين بمشترياتهم، ثم بدأ بعضهم بإلقائها ليتمكنّ من العدو السريع كذلك أنا فعلت حين دوى فجأة أزيز رصاص في المعبر، سقط بجانبي شخص لم انتبه لوجهه لكنه كان رجلًا، بدا المشهد كأن الناس يساقون إلى المحشر، في منتصف الطريق توقف صوت الرصاص للحظات فتذكرت ابني، لقد نسيته، يا إلهي أين هو؟! نعم صدقوني نسيته، اعذروني فالمشهد في معبر الموت كان يشبه يوم القيامة بكل تفاصيله، الناس كالسكارى يتخبطون في كل الاتجاهات لينجوا بأرواحهم، إنه يوم “تذهل كل مرضعة عما أرضعت” وهذا ما شعرت به حينها، وما إن وصلت إلى مكان معزول قريب من أحد الأبنية في الطرف الثاني بدأت أصرخ “غيث.. غيث” ابني ضاع يا ناس أصبحت كالمجنونة تمامًا، لا أسمع سوى صوتي الذي كان يرتطم بحجارة حلب كلها دون جدوى، لا أحد ينظر إلي وأنا أستغيث الكل في حالة هلع، أصرخ وأنوح دون أن تلامس بحة صوتي مسامع أو شغاف قلب أحد وسط ضجيج القيامة.
تنفست الصعداء وبدأت أفكر أين سأبحث عنه من سأسأل؟ ماذا سأقول لزوجي؟ لأخوته؟ لأهلي؟ يا إلهي أي عمل قمت به لقد أضعت ولدي بيدي، كيف سأعيش من دونه؟ هل قُتل برصاص القناص الذي اعتاد أن بضع أشخاص يوميًا؟ أم أنه حي ويبحث عني؟ أو لعله ينتظرني في الطرف الآخر! أسئلة كثيرة دارت في مخيلتي، وفجأة لمحته واقفًا يمسك ببعض الأكياس ويحرك رأسه شمالاً ويمينًا بحثًا عني وفي ملامح وجهه خوف من مستقبل مجهول يمكن أن يعيشه في حال لم يجدني، ركضت باتجاهه واحتضنته بقوة وبكينا فرحًا باللقاء وحزنًا وقهرًا على وطن ضاع وضاع أبناؤه.