وفي حلب انشأنا المحاكم التي يقوم فيها الظُلم مكان العدل، احترفنا المزاودة على الناس، رَثينا الشهداء ونحن من كان يقتلهم حقيقةً عندما أدخلناهم حربنا غير المتكافئة والمليئة بالتخيلات البطولية التي ورثناها عن أفلام الكرتون والمسلسلات التاريخية المتعفنة، ولم نستطع أن ننتصر في معركة حقيقية واحدة، إلا عندما كانت بنادقنا ترتفع تجاه بعضنا، كان النصر لابدَّ أن يكون حليفاً لأحد اللصوص أو الأغبياء أو السُّذَّج الذين يتقاتلون على حكم المدينة الخربة.
وفي الساعة الحاسمة، تكشفت عوراتنا، وأطعنا ولاة الأمر باستكانة مطلقة، ونفَّذنا ما يريدون منَّا باستسلام غريب، فلقد كانت العصا مشرَّعة أمام من يعصي الأوامر، تلك العصا التي لم نجربها حقيقة، فقد كانت تبتعد عنَّا حيث ما أرادتنا أن نصل، ونبتعد عنها عندما نشعر بسطوتها في أماكن لا يسمح لنا بالوصول إليها.
كلُّ هذا لا يعني أبداً أنَّنا لسنا أصحاب حقٍّ، ولا يعني أبداً أنَّ كثيراً من الشرفاء قد ضحوا في سبيل القيم التي نؤمن بها، ولا يعني أنَّنا لم نخض معارك عزة وشرف حقيقية كدنا فيها أن ننتصر لولا أنَّ العالم قد توحَّد ضدنا، وتركنا عرضة للموت والجريمة.
نعم، لقد كنَّا شعباً استثنائياً في الصبر والصمود، وفي تحمل أشرس مذبحة في التاريخ لكي لا نفرط بالأرض والعرض، ولكن كان ينقصنا الوعي الحقيقي الذي يجعلنا نرى الصورة كاملة لنكشف الخونة والمتخاذلين والعملاء بيننا، كان ينقصنا الوعي لكي نفهم تحركات النظام وحلفائه، وكانت تنقصنا الشجاعة لكي نتنقد ونقول: لا وكفى لكلِّ الذين يتوهمون أنَّ النصر سيكون فقط بالبندقية، ويسيرون وراء عواطفهم الفَجَّة في حبِّ الشهادة والموت الذي لا يسعى لحياة أفضل على هذه الأرض، وإنَّما فقط من أجل خلاص فردي مقيت وبطولة مبتذلة.
كلُّ هذه الحدّة في الانتقاد هي دعوة حقيقة لنا جميعاً لكي نراجع أنفسنا وممكناتنا وأهداف ثورتنا الحقيقية في الحرية والعدالة والمحاسبة، دعوة لنُعمِل العقل بعيداً عن العاطفة، دعوة لكي نخطط جيداً لما تبقى بين أيدينا من أرض محررة، وفي كلِّ ما كتبتُ هناك إصرار أريد تكراره دوماً: “هذه الثورة هي مطلب حقٍّ لا ينبغي له أن يرتد مهزوماً” لذلك يجب أن نعطيها ما تستحق من الاهتمام والوعي والشجاعة والوقت، وحساب الممكنات، وانتهاز الفرص والتنازلات الممكنة من أجل بدايات جديدة أكثر ثباتاً، فلا يوجد ما نستطيع تحقيقه كاملاً دفعة واحدة، ولكن هناك شيء نستطيع الوصول إليه اليوم إذا فهمنا واقعنا بشكل جيد، وأحسنّا سياسة أمورنا بطريقة أكثر قابلية للحياة، وتخلينا عن الشعارات التي لا نفع من ورائها، وعن الخلافات الإيديولوجية التي تُنشب الحروب فيما بيننا، وعن خوض جميع المعارك الخاسرة سلفاً بدعوى المجد والكرامة، فلا مجد إلا للمنتصرين، ولا كرامة تُرتجى للخاسرين تحت التراب.
المدير العام | أحمد وديع العبسي