محاولات كثيرة دارت وتدور في أروقة دول العالم لإيجاد حلٍّ سياسي للخروج من الأزمة وإيقاف نزف الدماء في سورية باءت كلها بالفشل، وهذا الفشل أرى أنَّه متعلق بالنفاق، نفاق السياسيين من جهة، ونفاق بعض السوريين سواء مؤيدين أو معارضين من جهة أخرى، فمنذ القدم تعودنا على الوقوف متفرجين على الظلم والمظلومين من أبناء جلدتنا الأمر، الذي خلق البيئة المناسبة لنمو الجبناء والمنافقين.
ما أعظم وأسهل النفاق يا سادة، وما أجزل فوائده! إنَّه يستر عورات الحياة ويزخرف خبائثها، النفاق يا صاحبي يُعين المنافقين على تحمل ويلاته، فيريهم الحق باطلاً، والشر خيرًا، والتراب تبرًا ويغمض أعينهم عن خطاياهم وشرورهم، ولولاه لانكشفت الحقيقة للناس، وفُضِح ما استتر من أمرهم، فهل هي السياسة التي تتطلب من حكامها كثرة الأقوال وقلة الأفعال؟ وهل إذا كنتَ بمكان أحد الحكام السياسيين لكنت فعلت ما فعلوه بنا؟!
ومن يرى حال أهل النفاق منَّا يدرك تمامًا ما ذكره الله من أحوالهم في كتابه وما عاناه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين- منهم، فقال الله تعالى فيهم: “ومن الناس من يقول آمنا وماهم بمؤمنين” فمنذ تعاظم قوة الإسلام اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً بدأ التآمر ضد النبي والمسلمين للقضاء عليه عن طريق بعض أصحاب المصالح الذين لم يدخل الإيمان إلى قلوبهم، فاتخذوا من الدين والأعمال الإنسانية ستاراً لهم، وأصبح لهم حواضن وعملاء مازالوا إلى وقتنا هذا، فكانوا سبباً في انحراف العقيدة، لكنَّهم وكما قال الله تعالى: “يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون”.
لقد تغيرت كلُّ المفاهيم خلال الحرب، لدرجة بات فيها المرء يشعر أنَّ الأخلاق والصفات الحميدة تبدو كأنَّها شيء عفا عنه الزمن، فأصبحت الشجاعة في قتال النظام مرادفةٌ للتهور، والمروءة في مساعدة الأبرياء مرادفةٌ للسذاجة، أمَّا الصفات الذميمة كالنفاق والرياء باتت بضاعةً رائجةً يتبارى كثيرٌ من الناس على التعامل بها كأنَّها فضيلة بحجج كثيرة منها السعي لإخراجنا وتخليصنا من الأزمة التي عجز عن حلها كبار الساسة وصغارهم “المرتزقة”، وبمباركة بعض علماء الدين الذين كان لهم دور كبير في فساد السياسة في سورية.
نحن كسوريين لابدَّ أن نكون أحد اثنين، إمَّا شعب يكره نفسه لأنَّه يأبى أن يُصلح حاله ويعالج مُصابه ويزيل عن نفسه ذلك القيد الثقيل الذي يودي بحياة أبنائه، وإمَّا شعب زاهد اعتاد على ذلك البؤس الذي يرتع به والحرمان الذي يأخذ بخناقه منذ عشرات السنين.
يؤسفني القول: إنَّنا شعب أصبح كالنعاج التي تستغيث من الذبح وما من مغيث إلا البكاء على أشلاء أطفالنا، شعب ينتظر الوعود الكاذبة على لسان المنافقين من أجل النجاة، مع العلم أنَّ حال باقي الشعوب العربية أشد سوءا من حالنا في مسألة اتباعهم الأعمى لمواقف حكامهم وانشغالهم بطعامهم وشرابهم ومتاعهم متناسين أنَّ العقل والتفكر والتأمل والإيثار من أبرز صفات الإنسان المؤمن، قال الله تعالى:” أمْ تَحسبُ أنَّ أكثرهُم لا يَسمعُونَ أو يَعقِلونَ إنْ هُم إلا كالأَنعَامِ بل هُمْ أَضلُّ سَبيلًا” فلم تعد تلك المشاهد من الأشلاء الممزقة والأبنية المدمرة والخيام المتهالكة تثير المشاعر والأحاسيس لديهم.
لكن ماذا عن تخاذل حكام العرب تجاه قضيتنا؟
اعذروهم أيُّها السوريون، فنحن قوم فينا من الغباء ما يكفي لتصديق رواياتهم، وما علينا فعله هو أن ننافق ونبتسم ونصفق لقرارات اجتماعاتهم لأنَّنا -وبدون نفاق-مازلنا بحاجة لبعض خيامهم خوفًا من التشرد بعد أن يهدموا سقوفنا فوق رؤوسنا، وبحاجة أدويتهم لنداوي بها جرحى من يقتلوه منَّا، وبحاجة لأن نطعم أولادنا من بقايا مساعداتهم اللاإنسانية، فإلى متى سيبقى النفاق متجذرا فيهم وفينا رغم محاولاتنا الفاشلة للتوبة والخلاص منه؟!
يا أمة العرب “يا أمة ضحكت من جهلها الأُمم” ألم يكفيكم ما ذبح منَّا من وراء اجتماعاتكم المخادعة والفاشلة؟!
مليون شهيد، والملايين منَّا تفرقوا في أصقاع الأرض شيعًا، وفي معتقلات تخاذلكم نساء سُبيت، ماذا تنتظروا بعد لتتحركوا؟! أولم تعلموا أنَّ الله يُمهل ولا يُهمل؟!
اعذروني إن قلت: لا رحم الله أجدادنا السياسيين، فقد كان فيهم الكثير من المنافقين لا يقلُّون رداءة عن حكام العرب اليوم، فقد باعوا فلسطين والعراق قبل أن يبيعونا، كان فيهم كأي أمة وجيل الصالح ُوالطالحُ “فلا تلد الحية إلا حية”.
إنَّ كلَّ ما حصل ويحصل اليوم في سورية هو صدى لتلك الثقافة “النكراء والمنكرة” التي درستها أنا وأنتم في مادة القومية ومنهج البعث، وهذا المطر الأحمر ما هو إلا نتاج تلك الغيوم السوداء التي تجمعت من صمت أفواهنا ضد الفساد والظلم، أهو الجبن أم الخشية من العواقب؟! أمَا يكفينا تلك العاقبة ولم يبق لنا بيت إلا وفيه شهيد أو معتقل أو معاق ونحن ما بين مُهَجّر ومُهَاجِر ؟!
من ناحيتي أنا مازلت أثق بقوة إرادة الشعوب، وبعدالة ربِّ السماء يوماً ما، وإن بَعُد ذلك اليوم، لكني أيضًا أوافق مقولة: “وفساد العلماء من الغفلة، وفساد الأمراء من الظلم وفساد الفقراء من النفاق”.
بصراحة، وحتى لا أكون منافقة، ولأني أرى في نفسي من الشجاعة ما يكفي لأقول لكم أن ثمَّة جمل كثيرة في مقالي هذا شطبتها بعد أن كتبتها خوفًا من تفاصيل الموت المرعبة في وطني، فاعذروني، أقول قولي هذا وأنا أدرك تمامًا أنَّنا شعبٌ دمَّر النفاق والشقاق ثورته، وأسأل الله لي ولكم أن يحشرنا مع المؤمنين الصادقين.