نورس أبو نضال
في بلدة صغيرة بريف إدلب في سوريا قُطعتْ رجلاه، وعلا صوت بكائه ليهز أرجاء العالم ويُخرجَ الأخرس عن صمته ويصرخْ، وتُسمِع كلماته الأصم حين نادى والده.
عندما تعجز الكلمات عن الوصف في مشهدٍ لا يمكن تخيلهُ؛ طفل لم يبلغ سوى العاشرة من عمره وقد قُتلت والدته وشقيقته الطفلة أيضاً عندما تعرضوا لقصف جوي. كان طريحاً على الأرض وهو يصرخ يا (بابا شيلني) وقد سمعَ العالم أجمع صراخه بل ورآهُ ايضاً.
كما سمعَ من قبل صراخ آلاف الأبرياء كباراً وصغاراً في سوريا بل شاهدوهم كما لو كانوا معهم؛ شاهدوهم وهم غرقى في المياه أو تحت أنقاض الأبنية، شاهدوهم قتلى بالرصاص والشظايا والحرق، وسمعوا أنينَهم وآخِر شهيق وزفير خرج من صدورهم قبل موتهم.
كما شاهد العالم أجمع أطفال فلسطين وبورما وإفريقيا وقبلهم البوسنة والشيشان وبالطبع تتحرك المشاعر وتبكي عيون الكثير، ويحاول الكثير من أصحاب الضمير والأخلاق والإنسانية أن يساعد ويساهم في تخفيف معاناة الأطفال أفراداً وجماعات.
وأما الحكومات والدول فتبدو وكأنَّها أيضاً تتألم على لسان صناع القرار وتهرع لتقدم مساعدات مالية وبرامج علاجية وتعقد الندوات والمحاضرات التي تنادي بأعلى صوتها بحقوق الطفل.
وعلى ما يبدو أنَّ الدول العالمية لم تقصِّر نظرياً في شيء، ففي عام 1989 أقرّ زعماء العالم بحاجة (أطفال العالم) وليس أطفال دون أطفال إلى اتفاقية خاصة بهم، وكانت اتفاقية جنيف لحقوق الطفل تتضمن مبادئ هي: عدم التمييز؛ تضافر الجهود من أجل المصلحة الفضلى للطفل؛ والحق في الحياة، والحق في البقاء، والحق في التعلم والحق في النماء، وحق احترام رأي الطفل وهو يتضمن الحق في الاستماع له.
بينما ما حصل للطفل الصغير ذو العشرة أعوام في بلدة الهبيط الذي نادى بما تبقى من قوته التي أنهكَتها الجراح بأعلى صوته، عَكس مدى مصداقية هذه الاتفاقيات المنعقدة من الخصم والحكم في آن معاً، وبالفعل لقد أصغى العالم لذلك الطفل، لكن ما أثرُ صراخه في ضمائرهم؟ وما الذي تغير أو سيتغير؟ لا شيء كما الصرخات الأخرى ويبقى السؤال لماذا؟
لماذا لم يحاسب القاتل؟ لم ولن ترفعَ السكين التي تَقتل، ليس بالخفاء حتى يستدعي الأمر معرفة الفاعل.
سيقول البعض: ليس باليسير أن يتوقف ما يجري، وليس باليسير في تعقيدات السياسة والمصالح أن يُتخذ قرار أخلاقي سريع ومباشر.
لكني لا أستطيع أن أقتنع إلا بشيء واحد أنَّ المبادئ التي تَستقي منها سياسة الدول في هذا العالم الذي يدعي التحضر بعيدة عن الأخلاق، بعيدة عن الحق عن النور، تُبنى على المصالح والمصالح فقط، حيث تتضارب المصالح مع الأخلاق والقيم فلا مكان سوى للأولى.
وهنا يأتي دور الشيطان، ليس شيطاناً من الجن، لكنَّه من الإنس هو “نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلي” السياسي والكاتب الإيطالي الذي لقب بعبقري السياسة صاحب كتاب الأمير أشهر ما ألَّف وكتب.
هذا الرجل الذي قال: إن (الغاية تبرر الوسيلة) و (لا علاقة للسياسة بالأخلاق) و”إذا كان لا مفر من أذية أحد فلتؤذه بقسوة تجعلك لا تخاف من انتقامه” وباتت نظرياته تلك قدوة لسياسيي العالم في العصر الحديث: وأصبحت لمبادئه التي لا تقترب من المبادئ إطلاقاً مدرسة قائمة بذاتها.
هذه التعاليم التي أصبحت قدوة بالسياسة في أيامنا هذه جعلت دول العالم ذاتها التي أبدعت على الورق في حقوق الأطفال تشارك في قتلهم في سوريا، إما بالفعل كروسيا، أو بالامتناع عن الفعل كبقية الدول.
كان باستطاعتهم إجبار النظام القاتل على الرحيل، بل ومحاسبة القتَلَة، وكان باستطاعتهم أن يوقفوا آلة القتل، هذا ما تفرضه الأخلاق عليهم، أما المصلحة التي تُبنى عليها السياسة التي تجعل من نظريات شيطان السياسة قدوة تقول شيئا آخر.
تقول: أرسل للأطفال الهدايا، وأرسل لهم العلاج، واستقبل منهم، وامسح دموعهم بيديك، لكن لا يتوجب عليك أن تفعل ما يفرضه الواجب الإنساني أبداً، ولا يهم أبداً إنْ استمرَ قتلهم مادامت مصالحكم على ما يرام.