ليعلم الجميع أن الثورة ليست خياراً، لم تكن يوماً شيئاً سهلاً، ليست عقيدةً أو انتماء، إنها أسوء ما يمكن أن ترتكبه الشعوب تجاه أوطانها وحريتها.
نعم، بكل هذه الفجاجة والصراحة، لم تكن الثورة أبداً خيارنا، أو إرادتنا، حاولنا دفعها بكل ما نستطيع على قدر ممكناتنا يومئذٍ، لم تكن بالنسبة إلينا استغلالاً مهماً قد لا يجود الدهر بمثله، لكنها وقعت كأمرٍ لا مفر منه، وقعت في داخلنا قبل أن تقع على أرضنا، وها نحن اليوم نحاول أن نتأقلم مع وضعنا الجديد وأن ننتصر لحقنا، ولوطننا، ولقيمنا، وللناس الذين آمنوا بنا، نحاول أن نفعل ما ينبغي فعله عندما تقع الثورات، أن نقاوم، أن نمتلئ بالعزيمة، أن نصبر، وألا نهزم أبداً مهما طال الزمان واستطال العذاب.
لا أحد يختار أن يبتر جسده، إلا عندما يفتك المرض به، كآخر العلاجات، فآخر العلاج الكي، وآخر آلام الأوطان ثورة، حاولنا ألا نجهض الوطن، ألا نعلن الدمار الكبير، ألا نحارب أنفسنا، ألا نعبد الفوضى، ألا نفرق الناس وألا نسيل الدماء، لكن سكين الظالمين لم تشبع من نحورنا، وسياط الجلادين لم تستقر على أجسادنا، وإذلال الحكام وحقدهم واستعلائهم لم يتوقف عن استعبادنا وإهانة كرامتنا وتشريد أهلنا والنيل من أعراضنا، وجميع محاولاتنا السابقة باءت بالفشل، فكانت الثورة، وكنا الثائرين .
هكذا .. عندما لم يبقَ ما نستطيعه إلا الثورة فعلناها، بكل ما نتصوره من الحرب المفجعة، أو ربما لم نتخيل أنها مفجعة إلى هذا الحد، لم تكن رحلة هينة، ولم نتصورها كذلك، لقد عرفنا ما ينتظرنا منذ أول مذبحة، لكن لم يكن الواقع يوفر أي بديل آخر لاسترداد حريتنا. فحملنا ما نستطيع من الدماء والأرواح قرباناً لوطننا، ومضينا في طريق الحرية العظيم.
تعودنا على الموت، وعلى الخسارات، وعلى الخراب، وعلى الدماء، ليس تأقلماً وإنما قهراً، لكننا لم نتعود الهزيمة، ربينا العزيمة ولم نخسرها أبداً، آمنّا بإلهنا، وبحقنا، وبوطننا، وبرسالتنا التي تكمل لنا حياتنا القصيرة.
سنستمر، وسننتصر رغما عنا، وسنفي بوعدنا، وبرضى الله الذي نبتغيه، وبحلم الناس الذي حملناه على أكتافنا، وحتى ذلك اليوم، سنفعل ما بوسعنا كأصحاب حق، وليس كثائرين فحسب، لقد رأينا بأم أعيننا أن الثورات تنحرف عن مسارها، وأن كثيراً من الثوار يجعلونها انتماء، ويجعلون الدماء وشهواتهم بوصلة للحلم الكبير بدل أن يكونوا مجاهدين في طريقه كما ينبغي، إن الثورة أداة نملكها .. وليست انتماءً لأحد، ولا فضل لثائر على غيره من الناس، فكل يعمل في سبيل ما يؤمن به ويرتجيه، إن كان خيرا فيصيبه الخير، وإن كان سوءا فيجزى به.
عندما سننتصر ذات يوم، سينتصر الوطن، ستنتصر القيم، سينتصر الحق، ستنتصر إرادة الناس وأحلامهم، ستنتصر العدالة المشتهاة، ولن تنتصر الثورة، ستنتهي وسينتهي دورها.
إننا لا نوصي أحداً أن يسير في طريق الثورة، بل ادفعوها ما استطعتم إلى ذلك، فإن كان في العلاج خير على طول الأمد فلا تستعجلوا خراب أوطانكم، وإن كان الداء قد استشرى، فدونكم هي الثورة، احملوها على مهل، ولا يدفعنكم الحماس للعمى، ولا النصر للاستلاب، ولا الخسارة للقنوط
إن ما نريده أن نصحح البوصلة تجاه الوطن، أن نمسك بالثورة كأداة، ولا نحيلها انتماء عقيماً واستعلاء أعمى، إننا نقاوم في سبيل الحق والحرية حتى يرضى الله لا الثورة، ونريد أن ينتصر الوطن لا الثوار، وعلى هذا نحمل الأمانة، ونبذل الدماء، ونشحذ العزيمة، ونشد الوثاق، ونحيي الأمل ونقتل اليأس، ونحمل الناس على الصبر والفداء.
المدير العام | أحمد وديع العبسي