كم من القيم الإنسانيَّة نحملها تجاه الآخرين إذا ما رأينا مُصابهم أو علمنا ما يُخالجهم من ويلات، حيثُ إنَّ حديثاً واحداً بينكَ وبينَ فاقدٍ لأُمِّه كفيل بتفجير تلك القيم في ذاتكَ والتَّعاطف الفوريّ مع ذاكَ الفاقد، تلكَ الطَّاقة هي ما يُعرف بالإنسانيّة، هي ما تجعل من مالكها إنساناً إن صحَّ التعبير.
إنَّ معرفةَ عدمَ كوني إنساناً إلّا بما أحملُ من مجموعِ القيمِ الإنسانيّةِ هو دافعٌ يستدعي ضمائرنا للإحساسِ بالمحيطِ الخارجيّ وما يُعاني من نقصٍ والشُّعورُ بفقدهِ للشّيء، ثمَّ استحضارُ الطّاقةِ الكامنةِ في ذواتنا وتفجيرها تحتَ مُسمَّى الإنسانيّة.
هذا بالتأكيدِ ليسَ الجانبَ الوحيدَ لقياسِ الإنسانيّةِ لكنَّهُ الأعظمُ والأجدرُ بالمعرفةِ فمن لا يكترثُ بفاقدٍ لعائلتهِ وهو منعمٌ بينَ والديهِ؟ ومن لا يشعرُ بفاقدٍ لمقلتيهِ وهو يبكيهِ بعينيهِ؟ لن أقولَ من البداهةِ أن يُعمِلَ كل هذا الحسَّ الإنسانيَّ فينا؛ بل من البلاهةِ والتّفاهةِ ألا يُعملَهُ!
وراءَ كلّ تلكَ الصّورِ المؤلمةِ التي مررنا بها تكمنُ صورٌ أكثرُ إيلاماً لا تُرى بالعينِ المجرَّدةِ، قد ترى شخصاً سليمَ البنيةِ، كاملَ العافيةِ، منعمًا عليهِ برفقةِ والديهِ، يُزاملكَ في ذاتِ الوظيفةِ، لكنَّهُ يقلُّ عنكَ خبرةً ومستوىً، تُحدِّثكَ نفسكَ بكمّيّةِ الغباءِ التي تعيقُ هذا الشّخصَ لإنجازِ ذاتَ العملِ الذي تُنجزهُ أنتَ بسهولةٍ فائقة.
وكثيرةٌ هي المُتشابهاتُ لذلكَ في حيواتنا كَمٌّ هائلٌ من الأحكامِ نطلقهُ على الكثيرين بلا أدنى تفكيرٍ بالمساحةِ الخاصّةِ التي يمتلكها كلّ فرد، أو ما يُعرفُ بذاتِ الصّدورِ.
المساحة التي أشبهُ ما تكونُ بنعمةٍ أو هبةٍ من الله يمتلكها الفردُ ليحيى بها مع ذاتهِ وما تحملهُ من عوالمَ لا مرئيّةِ للجميع؛ تُصبحُ عُرضةً لتطفّلِ الآخرينَ عليها بسذاجةِ ظنونهم، بإطلاقِ أحكامٍ هجوميّةٍ بلا مراعاةٍ لما قد تُخفي الصّدور! فالمتعارفُ عليهِ أنَّ في الصّمتِ إعلانٌ بالقبولِ والموافقةِ، وقد يُخيّلُ للبعضِ أنَّ لجوءكَ للصّمتِ وعدمَ الكلامِ محضُ مخالفةٍ لهم ووقوفٌ في التضاد طالما أنّكَ لم تتحدّث بعد، وما يَغفلً عنه أولئك أنّ الصّمتَ قد يكونُ رفعةً عن التّفاهاتِ إن وَجِدَتْ، أو انسياباً تامّاً للعُزلة، أو لجوءًا لقوقعةِ الوحدة.
يُقالُ إنّهُ لو اطَّلعَ النّاسُ على ما في قلوبِ بعضهمُ البعض لما تصافحوا إلّا بالسّيوف، إذ في كثيرٍ من الأحيانِ؛ لا تحتاجُ للاطّلاعِ على ما في قلوبِ الآخرين لتصافحهم بسيفكَ الحادّ، فقد سبقَ وأن أطلقتَ أحكاماً ما أنزلَ اللهُ بها من سلطان، وذلكَ بمنزلة المصافحةِ بسيفٍ ولكن من طرفٍ واحد.
مثلُ ذلكَ لا يُفهمُ إلّا اعتداءً على ملكيّةٍ خاصّةٍ للفرد، ما تُخفيهِ الصّدور ليس مشاعاً لفضولِ الجميعِ والاعتداءاتِ المستمرّةِ، بل إنَّ هذهِ الملكيّةَ الخاصّة نظيرةٌ للصورِ المؤلمةِ عياناً إلا أنَّ الفرقَ الوحيدَ بينهما أنَّ الأولى لا تُرى بالعينِ المجرّدةِ، لا تُرى إلّا بشعاعٍ من نورٍ منبثقٌ من مجموعِ المشاعر والأحاسيس في دواخلنا، شعاعٌ يغلبُ فيهِ حسنُ الظّنِّ على سوئه، مراعاةٌ لمشاعرِ الطّرفِ الآخر وتقديرٌ لظروفهِ، إحساسٌ بالفقدِ الذي يُعانيهِ، شعاعٌ منبثقٌ من الإنسانيّةِ في ذواتنا التي تستدعي بالضّرورةِ القيمةُ المستمدّةُ منها.
حينَ تكونُ أقدامكَ بخيرٍ من السّهلِ عليكَ أن تقولَ لمن يتألّمُ من قدمهِ اركُض، حينَ تكونُ ذا مال وفير من السّهلِ عليكَ أن تقولَ لمحدود الدَّخل تصدَّق، حينَ تكونُ قد حظيتَ بوالدين رائعين من السّهلِ عليكَ أن تقولَ لمن والداهُ بغاية السّوءِ كُنْ بارّاً بهما، حينَ يعافيكَ اللهُ من ذنبٍ ما من السّهلِ عليكَ أن تَحُثَّ المُبتلى به أن يتركهُ ويتجنَّبه.
بالتّأكيد كلُّ شيءٍ مقدورٌ عليهِ وما دُمنا لا نُعاني منهُ فهوَ سهلٌ، لذلكَ من السّهلِ علينا أن نُطلقَ الأحكامَ سريعاً وأن نَحُثَّ الآخرينَ دوماً بل ونتعجَّبُ إن لم نرَ فيهم ما رسمنا.
لمعرفةِ أيِّ مدى أنتَ إنسان، عليكَ أن تتفهَّمَ وتقولَ لنفسكَ لرُبَّما الأمرُ الذي يشعرُ بهِ هوَ لا أشعرُ بهِ أنا، أو لرُبَّما هوَ يواجهُ ما يُعيقهُ ولا أواجههُ أنا، لرُبَّما هوَ يَرى ما لا أرى!