أحمد يزنفي إحدى ليالي الشتاء من ليالي كانون الثاني، وفي منتصف الليل والسكون يخيم، وإذ صوت جلبة قوية تكسر الصمت، ويفتح باب ساحة الزنزانات، فنظر أحدنا من ثقب قد عمله السجناء من قبلنا في الباب الحديدي، وإذ يدخل ثلة من الجنود يحملون بأيديهم سياطا وعصي، وأصواتهم تنبح كالكلاب، يتلفظون بكلمات يخجل منها كل ذي لب، وبعد برهة من الزمن يأتون برجلين، أحدهما شاب في ريعان الصبا مقيد اليدين خلف ظهره، والآخر رجل مسن ذو لحية كثة بيضاء، فوقفت أنظر مكان ذلك الأخ، فتبينت من كلمات سمعتها أنَّ ذلك الرجل المسن هو والد ذلك الشاب، كانوا يشتمونهما ويهينونهما بأقسى أنواع الشتائم والإهانة، ثم طلبوا من الشاب بعد أن فكوا قيده أن يخلع ثيابه، ويبقى بسرواله الداخلي القصير، وسرعان ما وضعوا عصابة على عينيه كي لا يرى شيئا، ووالده الشيخ ينظر إلى فلذة كبده، ولا يستطيع أن يحرك ساكنا أو أن يفعل شيئا. ثم سأله أحدهم: من نظَّمك؟ وما هي الأعمال التي أوكلوا بها إليك؟؟ فأجاب الشاب: عن أي تنظيم تتكلم؟ فإني لست منظما ولا أنتمي إلى أحد، فأنا قد اعتدت الذهاب إلى المسجد فأصلي ثم أعود بعد انتهاء الصلاة إلى منزلنا، وهذا كل ما في الأمر، فقال له الجندي: يبدو أنَّك تحتاج إلى ضرب وقتل كثير، ستتعبنا وتتعب معنا، فأحضر أحدهم وعاء ملئا بالماء وصبَّه على رأس ذلك الشاب وبدنه، وغسله به تغسيلا، فأصبح يرقص ويرتجف من شدة البرد، ثم انهالوا عليه بالسياط والعصي، على رأسه، على ظهره، على جسده، أينما كان، حتى أثخنوه بالجراح وكاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ووالده أمامه ينظر إليه، الولد يعذب أمام أبيه، يا له من موقف، كيف يمكن أن يحتمل الأب آهات ولده وأناته وهو يضرب ويرش بالماء البارد؟ إنَّها ساعات لا يمكن تحملها، وجميع السجناء يدعون الله أن يمنحه القوة والقدرة على التحمل والصبر.ثم يأتي دور الأب ليعذب أمام ابنه تعذيبا مماثلا، فيفعلون به كما فعلوا بابنه من قبل. وأخيرا يفتح باب غرفتنا فيدخلون الشاب وهو مثخن بجراحه يحمل ثيابه الملطخة بالدماء، ورأسه قد تورم من الركل والضرب، وعيناه قد غارتا في وجهه، وجسده قد اصطبغ بلون داكن أسود وهو يئن ويصيح، فأينما نجلسه وكيفما يضطجع فإنَّه يعاني من الآلام والأوجاع. ويدخلون والده المسن في الغرفة المقابلة لغرفتنا، وهو فاقد الحركة، وبصوت مرتفع يتمنى الموت لنفسه ويناشدنا أن نتمناه له، فمقولة الموت أرحم صادقة في حالته تماما، ويسقط ابنه أرضا منهكا من شدة البرد والتعذيب وللزيادة في الألم والمعاناة فإنَّه قد وضع في غرفة مقابلة غرفة والده، كان طوال الليل يناديه ويستنجد به من آلامه التي لا تطاق وبين فترة وأخرى يتذكر حالته السيئة فيجمع قواه ويناديه أن يتحمل ويصبر على ما كتبه الله وقدره.كانت مأساتنا كبيرة عظيمة وكان منظر الأب وابنه يدمي قلوبنا فكنا لا نستطيع فعل أي شيء سوى الدعاء لهما، ربَّما كنَّا في بكائنا عليهما نبكي على أنفسنا وعلى حالنا.أتساءل أين ضمير البشرية وأين من يسمون أنفسهم مدافعين عن حقوق الإنسان؟ هل صحيح ادعاؤهم أنَّهم لا يعلمون إنَّهم يشاركون المجرم في جرائمه، إنَّهم بصمتهم المطبق يعطونه الموافقة على فعلته، والأنكى من ذلك يدعمونه ويمدونه بالسلاح والمال وآلات التدمير والقتل والإجرام.