حلُك ليلُ الدنيا و أسفر القمرُ عن وجهه المظلم الظالم لقوم السفن الذين تقاذفتهم أمواج الحياة و ضربتهم في عمق محيطات الضياع، حيث لا سبيل للنجاة إلا لسفينةٍ بوصلتها الإيمان وخريطتها الوعي، أمَّا الأسبقية فلقد تحلت بالأولية كأسلوب إبحار، وما بين خريطة الوعي والأولية بالإبحار، ائتلق جوهر الدافع للتغيير كسبيلٍ للإنقاذ من طوفان الطغيان، والوصول بمركب التغيير إلى برِّ الأمان، حيث تستمر جذوة التوق للتغيير بالاشتعال، تتطاير من حولها بقايا مسببات الخمول والإحباطات، لتغدو المعوقات و الصعوبات رمادًا في مهب النيران، لكن شعلة التغيير لن تزأر بدون طريدة، ولن تتمايل وتتنامى بلا غذاء يسدُّ رمق شغفها، ولن تبقى إن رُشقت بماء الاستسلام، ولذلك كان الدافع وقود التغيير والغذاء المعنوي لسِباع الروح، حتى تعود لفتكاتها بعد أن أُقعدت على أدبارها كمداً وعجزاً ..
يلقي الدافع نحو التغيير بذور الهمة في ثنايا الفِكر وينثرها في رحاب الألباب ويوزعها عند منعطفات الفؤاد لتروى تلك البذور بسقيا العزيمة لتُهذب منها جذور الهزيمة ولتُزهِر براعم التغيير فعلاً وعملاً في سلوكيات الفرد المنتج الذي علِم أنَّه لبنة البداية وبداية النهاية لسباق التغيير، تبدأ نوازع التغيير تنغز في القلب نغز الإبر لتُخرِج سموم الضلال ويتشرب الفؤاد الحق صافيًا أبلجًا، فتبدأ دوافع التغيير تعبث بتراتبية الجزئيات المخبأة بلُب الإنسان، وتعيد تنسيقها على أسس جديدة أولها السؤال عن مدى صحة ترتيبها والتيقن من حقيقتها والتأكد من إمكانية تحقيقها لتغدو ملاذ الأمن والأمان، تفيء إليه الروح المتعبة كلما أنهكها تعب أو لامسها وَصب و نصب، تلتمس بضع قوة و كثيراً من العزيمة، لتطلق إشراقها وتُحق حجتها في مناظرة كل من ضلَّ و أضلَّ فتصدح “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ” حيث أُلقيت كلمة الحق في الأسماع فلم يتأخر خليل الله عليه السلام في الإفصاح عنها؛ لأنَّ الخطوة الأولى في عملية التغيير تصحيح المسار وإحداث ثورة في عالم المفاهيم و الأفكار، لم يترك إبراهيم عليه السلام فراغ التغيير شاغرًا في الألباب فسارع يناقش الفكرة تلو الفكرة، حتى لا يخمد دافع التغيير عند قومه “فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ” أتى لهم بالبرهان والدليل والمناظرة التي تعلو حجته موقف المكابر فيهم، ألم تعبدوا النجوم؟ ها هي قد أفلت؟ أفتتخذونها أرباباً؟
استمالة القوم والتدرج في عملية إيصال منتهى الفكرة وطبعها بأفئدتهم بمداد القناعة وروح الإيمان لا يكون بلحظات وهنيهات، إنما هو هدم كلي لكل أطلال أفكار ضالة وبناء تدريجي قد يستغرق زمنًا طويلاً، لكنه يخلد بسمو مادة بنائه، ألم يُبنَ من الدافع نحو التغيير؟ ألم يكن الحق هو السبيل؟
فحقّ له الخلود و السمو كإيمان متأصل بجذور من نور يرسخ بالإيمان ويسمو بالتغيير ويستمر بالدافع نحو العلياء، لم تستمر المناظرة طويلاً حتى أوضح خليل الله مقصده وأَبان منهجه وأظهر حجته “إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ” أُلقي قميص كلمات الخليل على أعين فقدت بصيرتها لعل النور يعود لمحاجرهم، فأضاءت كلماته الزمان وعبرت كل الأمكنة والديار، وجُعلت حقيقة التغيير وماهية الدوافع والتدرج في عملية بناء الفكر والإنسان لتصل لأرض الشام محملة (بغيث الوعي) والحث على المضي لله تتدافع الأنفس لتكتسب الأولية ولتحقق الأسبقية فتعجن بماء الخيرية التي تملأ نواحيها وتفيض من جوانبها، فتُزودُ الأنفس المعطاءة بدافع الاستمرارية في ثورة الأمويين، وإحداث التغيير في سفينة النجاة لتسير سفينة ثورتنا، بين الظلم والخذلان لكنها منتصرة بأن وقودها لا يفنى ولا ينتهي بل يستحدث من رُكابها إذ تصدح أفئدتهم باسم الله مجراها وباسم الله مرساها.