فراس مصري |
ولأن قضية السكن العشوائي ذاكرة مستدامة بسبب أفعال النظام المجرم بأركانه (الأمن، والجشع، والانتفاع، والفساد) وملخصهم (منهجية حزب البعث)، سنتابع كيف تسبب ذلك بشقاء ما لا يقل عن نصف سكان حلب المدينة، أي ما يقارب 1500000 نسمة.
وقبل الانتقال إلى الحالة القانونية التي ضيَّعت حقوق الناس بعد التهجير، لابد من سرد بعض الذكريات.
صدر قانون التطوير العقاري رقم 15 لعام 2008 من أجل غايتين:
الأولى: تسريع عملية إعمار مناطق التوسع العمراني، فحلب لغاية عام 2003 تبلغ مساحتها 18000 هكتار، وفي 2004 وبصدور المخطط التنظيمي الجديد وصلت مساحة حلب المدينة إلى 38000 هكتار، ولو أضفنا لها (الشيخ نجار) تصبح 42000 هكتار، وهذا يحتم أن تقوم الدولة بإقرار المخططات التفصيلية، ثم إعداد أضابير تنفيذية، ثم إنشاء البنى التحتية التي كانت مقررة أن تكون على أحدث موديل (أنفاق خدمة)، لكن ليس من مقدرة الدولة إعمار تلك المساحات الشاسعة، فكان الحل إصدار قانون يسمح لشركات القطاع الخاص المسماة (شركات التطوير العقاري) حسب القانون 15 أن تساهم في إعمار هذه المساحات والاستفادة المشتركة مع الدولة.
الأخرى: إيجاد تسوية حضارية لمناطق السكن العشوائي، وإعادة تأهيلها أو بنائها مع حفظ حقوق السكان عن طريق شركات التطوير العقاري التي يجب أن تنقلهم إلى مساكن كريمة في مناطق التوسع، ثم الشروع بتنفيذ التأهيل أو الهدم والبناء.
بعد صدور القانون، وحسب ذاكرتي صدر في شهر 7 لعام 2008 ، كان يجب أن تصدر تعليماته التنفيذية، إلا أن ذلك لم يحصل، حتى جاء شهر شباط 2009 وكانت زيارة رئيس البلاد إلى بلدية حلب، وكنت مشاركًا في هذا القاء الذي كان في السابعة صباحًا في مبنى البلدية، وقد ضمَّ، إضافة إلى الرئيس، رئيس مجلس المدينة وأعضاء المكتب التنفيذي (8) أشخاص، ورؤساء اللجان الدائمة (4) أشخاص، وأنا منهم بصفتي رئيس لجنة الثقافة والسياحة والآثار.
شهادة وشفافية: لم يكن لدي آنذاك مشكلة حقيقية مع شخص الرئيس، فقد كانت مشكلتي مع منظومة تهيمن عليها القيادة القطرية والإدارات الأمنية، وكل زملائي في مجلس المدينة كانوا يعلمون ذلك، أما رئيس الجمهورية فقد كنا نتوسم فيه خيرًا، وأن الإصلاح يحتاج تغييرًا جذريًا يستغرق زمنًا طويلاً لسبب تراكم عشرات السنين من الفساد.
لم أكن بعثيًا ولا متملقًا، بل كنت ضمن مجموعة سُمِّيت بـ (36 )، تُستَدعى لفروع الأمن ومنها فرع فلسطين منذ 2009 عندما كان الكثيرون يرددون الشعار البعثي في حلقاتهم، والكثير يسبحون بحمد حافظ الأسد عند كل اجتماع صباحي في ثكناتهم، لكنها كانت قناعات خاصة أن مشكلتي ليست مع بشار الأسد، بل كان يدعم مشروع تحديث الإدارة البلدية والشراكة الأوربية وما يسمى بمشاريع إستراتيجية (تنمية المدن، ووضع خطط مستدامة بشراكة مع GIZK )، نعم لقد بدأت مشكلتي مع الرجل فقط عندما شاهدت إدارته في التصدي للمظاهرات السلمية ثم توغله في دم السوريين.
بعد هذه الشهادة نعود لاجتماع الرئيس في شهر شباط عندما سأل عن تنفيذ قانون التطوير العقاري الصادر منذ 7 أشهر، فقلت له إننا لا نستطيع التحرك به؛ لأن تعليماته التنفيذي لم تصدر، فرجع بكرسيه قليلاً للوراء مستغربًا، وطلب من رئيس البلدية أن يذكره بالأمر فور انتهاء الاجتماع، وفعلاً شُكلت لجنة على الفور وصدرت التعليمات بعد أقل من شهر.
فماذا عن التطوير العقاري والأثر الذي تحول من فرضية البناء والإيجاب إلى حقيقة ضياع الحقوق والسلبيات؟!
في بداية 2012 طلب مني رئيس الهيئة العامة للتطوير والاستثمار العقاري في سورية المهندس (ي، س) وهو من أشرف من قابلت في السلك الحكومي، أن أتولى رئاسة فرع الهيئة في المنطقة الشمالي، وقبلت بالموضوع بعد إلحاح شديد، وبدأنا العمل على ترخيص الشركات وترخيص المشاريع المُقدَّمة من هذه الشركات، ولم تدم إدارتي هذه إلا أربعة أشهر، لأخرج من حلب بعد تهديد مباشر بالاستهداف من الأمن الجوي.
لقد كان حلمًا جميلاً أن نهيئ لساكني المناطق العشوائية المقهورين سكنى بديلة كريمة، إلا أن آليات التعويض في القانون حولت الحلم إلى كابوس، وإليكم هذه الآلية:
آلية معالجة مناطق السكن العشوائي (السكن البديل، المسح الاجتماعي) وفق أحكام القانون (15) لعام 2008 وتعديلاته وتعليماته التنفيذية .
“في مشاريع التطوير العقاري الواقعة ضمن مناطق السكن العشوائي والمخالفات، يلتزم المطور العقاري بتأمين السكن البديل والمناسب لشاغلي منطقة المشروع وتسليمه للجهة الإدارية، وفق المسح الاجتماعي الذي تعده الجهة الإدارية والجاري للمنطقة بتاريخ اعتمادها منطقة تطوير عقاري أو التعويض للراغبين منهم ببدل نقدي، كما تلتزم الجهة الإدارية بإخلاء الشاغلين بعد تسليمهم السكن البديل، وتسليم موقع المشروع خاليًا من الإشغالات للمطور العقاري، وذلك وفق الأنظمة النافذة وما ينص عليه العقد المبرم بين الطرفين.“
ملاحظة مهمة وحاسمة: حسب القانون 15 لعام 2008 فإن الوسيلة الوحيدة لتحديد عائدية السكن والتعويض هي المسح الاجتماعي، وهو عمليًا المسح الذي تجريه لجنة محددة بنص القانون بعد إحداث منطقة التطوير العقاري، وبالتالي سلب حقوق كل من هو خارج بيته.
نعم الكابوس أننا لم نكن نعلم أن تهجيرًا سيحصل، وأن القاطنين الأصليين في مناطق العشوائيات سيصبحون في المخيمات نازحين، وفي دول الجوار لاجئين، ليس لهم إلا حقيقة شعار ثورتنا “يا الله مالنا غيرك يا الله”
حياكم الله..