الحاضر لن يكون له وجود في المستقبل ما لم يكن مدوَّناً، فالذاكرة البشرية تموت بموت حاملها ومن بعده لا يبقى لها أثر في عالم الموجودات، وبالتالي لا يمكن برهنة وجودها من عدمه؛ فضلاً عن أن تعقيدات الحياة أو اقتناع الإنسان بصعوبة وجود هذه الحوادث التي تضمنتها الذاكرة في المستقبل، قد يؤدي إلى حذف تلك الذاكرة طواعية من قبل صاحبها.
لا يخفى على من يتابع أحوال الثورة أنه وفي أوائل انطلاقتها كانت أضواء القنوات الإعلاميَّة الكبرى مركَّزة عليها، ممَّا زادها إلى جوار قوة الحق الحاصلة قوة الصدع فيه، فأخذ ذلك التركيز الإخباري بيدِ أبناء الثورة يعينهم على سلوك طريق الحياة بعد أن ساد الموت عالمَ أحلامهم، ويذكرهم باستدامةٍ بنُبْل قضيَّتهم، وعلو الطريق الذي رسموه لأنفسهم.
هذه المشاركة من الخارج لم تدم طويلاً، فحسبَ الظاهر أن البعض وبمجرَّد أن التقم مصالحه الخاصَّة ناشلاً إياها من أحلام المكلومين؛ قامَ بالتخلي عنهم، وشرع بإطفاء مصابيحه واحداً بعد آخر بحجة التوفير وعدم الرغبة في التبذير، في وقت بدأ الظلام فيه يكشر عن أنيابه، فما إن ينطفئ مصباح حتى تنطفئ معه نفوس حول العالم كانت من قَبل مهتمة بالثورة وبمجرياتها، لتلتفت بعد ذلك كلياً إلى شؤونها الخاصة.
ثمَّة من أبناء الثورة من بدأت شعلتها تخبُت لديه مع الوقت بعد أن انتقل إدراكُه إلى مقولة أن طريق المجد ليس سهلاً من الإدراك النظري إلى المعايشة الفعليَّة، فليس من فائدة مرجوة من الإسهاب في التوصيف السلبي، لأنَّ ذلك في طبيعة الأحوال لا يُطعم قمحاً شهيَّاً.
إذا كانت متغيرات الحياة ومشكلاتها الولَّادة قادرة على تغييب كل تلك الدماء الطاهرة التي سُفكت لأجل الحريَّة والكرامة في عقول البعض، وهم يستظلُّون بسمائها ويتعبَّدون الله تعالى على أرضها، ويرتشفون من نبعها السلسبيل؛ فكيف هي حال الثورة مع الأجيال القادمة التي ما ذاقت لذَّة الخوف في سبيل أمانِها، ولا احمرَّت جلودُهم من أسياط البغي في سبيل العيش بكرامة؟ لا محالة لن يعرفوها إذا لم يكن هناك مُذَكِّر.
من هنا ندرك أن الحفاظ على وعي جيل أبنائنا وأحفادنا وتذكيرهم بارتفاع الثورة واجبٌ يجب علينا أن نتحمله ونعمل عليه، والطريق لذلك معروف لأصحاب كل قضية نبيلة يستبسل أهلها للدفاع عنها؛ نعم فتلك الوسيلة هي القلم، فما ينبغي علينا اليوم هو إدراك أهمية العمل الأدبي في سبيل الثورة، أهمية أن تخلد الكلمات ما حصل منذ البداية وحتى الختام الذي لن ينقطع أملنا في جماله حتى ولو تدلَّل عنا في بعده.
يجب أن نشجع كل عمل أدبي سواء كان شعراً أو روايةً أو مجموعة قصصية أو إلخ.. ما دامَ يخدم ثورتنا، ، فالكلمات هي الوحيدة القادرة على أن تحيا بعد الإنسان وهي الوحيدة القادرة على حفظ ذاكرة الأيام التي في الأحوال الطبيعية تندثر باندثار الإنسان وذاكرته.
تلك المقاطع التي تموج اليوم على مواقع الإنترنت بمختلف ألوانها والتي تنتصر للثورة قد تختفي الغد بين ليلة وضحاها دون أن نستطيع تخمين الكيفيَّة، نعم قد تكون تلك الفرضيَّة بعيدة عن القبول العقلي مع التضخم الحاصل في كيفية تنقل المعلومات ذلك صحيح؛ ولكن في المقابل لا أحد يعرف ما قد يحصل.
أيضاً، فإن تلك الأقراص التي نخبئها تحت وسائدنا كل ليلة في محاولة لاستجلاب أحلام سعيدة بعد أن أرقتنا كوابيس الواقع التي خبئنا فيها الكثير من ذكرياتنا وأمنياتنا الثورية قد ينعدم مفعولها في المستقبل أو ببساطة قد تضيع دون عودة.
تلك المقاطع المرئية لا يمكن تداولها من عقل لآخر، أما الكلمات فيمكن.
إننا لا نريد لهذه الثورة أن تُنْتسى حتَّى ولو حقَّقت طموحاتها وأهدافها، فهي تستحق أن تكون منارة تضيء الطريق لشعوب أخرى، ولا يمكننا بناء منارتها تلك إلَّا بالقلم، فلنشجع أهله ولنمدهم بالدعم على جميع الأصعدة.