نورس أبو نضال
دمعاتُ انهمرت وقلبٌ حزين لرجلٍ تركي يقود سيارته الخاصة، ليست دموعه هذه نابعة من ألمٍ شخصي أو جرحٍ خاص ولا حتى مصيبةٍ حلت ببلده بل لما وصلت له أحوال المسلمين ومعاناتهم في العديد من الدول من بلاد العالم الاسلامي؛ وذلك في معرض حديثه مع رجل سعودي في سيارة الأول وبلده ومدينة عريقة كانت لعقود عاصمة لجميع المسلمين.
ورغم أن لقاءهما هذا كان وليد صدفة محضة ومعرفتهما ببعضهما وليد اللحظة فقط استغل الرجل التركي هذه الدقائق المعدودة ليعبر عن قناعاته ورؤيته الواضحة للأخوة الإسلامية، وأن المسلمين أخوة لا فرق بينهم، ويبدو كلامه هذا بسيطاً ومعروفاً نظرياً لدى كل مسلمٍ في المعمورة، ومع أن ذلك المبدأ من المُسلمات التي لا يمكن الجدالُ فيها، وتقتضي هذه المسلمةُ أن يكون بين المسلمين من التواصي والتراحم والتآخي كما يكون بين الإخوة في النسب في أسرة متوادة ومترابطة، ويترتب عليها أيضاً واجبات وحقوق متبادلة وتجعل آمال وطموحات وآلام جميع الإخوة واحداً ومصابهم واحد.
إلا أن هذا المبدأ وهذه الرابطة بعدما عانت ما عانت وشن عليها ما شن من حروب فكريةٍ، وجوبهت بحججٍ عقليةٍ وفلسفيةٍ وتاريخيةٍ وألفت الروايات والكتب لنقضها وتقويض أركانها، وبعد مجهودات طويلة مستمرة مدفوعة برياحٍ غربية المنشأ تحمل معها أوبئة لتمجيد العرق والتعصب له والتقوقع به ومفاهيم النظرة الدونية لأعراقٍ وأجناسٍ أخرى تتألف منها الأمة الإسلامية وتتكون، نجحت هذه الجهود في إلغاء ما يترتب على الأخوة هذه من آثار وتبديد ما تنتج من قوة اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية أيضاً.
ولما كان ما كان بين الأخوة من جفاء نابع من شعور بجور الأخ وظلم ذو القربى كانت القطيعة والعداء نتاجها، وعمل الغرباء على ترسيخ العداوة والبغضاء بينهم وبات الأخوة على نقيض جسدٍ واحد فباتوا جسداً عجيباً إذا اشتكى منه عضوٌ وضع بعض الأعضاء أصابعهم في آذانهم وسعى بعضه الآخَر له بمزيد من الألم والحمى.
إلا أن الأمر المبشر هنا أن سنين طويلة من التجييش والتحريض وزرع الحقد والاحتقار المتبادل وتزوير التاريخ في مناهج الدراسة وزرع التعصب للأعراق عربية كانت أم طورانية أم كردية أم أمازيغية أم سواها لم يكن لها نجاح تام وشامل؛ إذ بقي في نفوس كثير من المسلمين شعور بالحب والشوق والحنين لآثار تلك الرابطة.
هذه الرابطة تبشر بيومٍ قد يطول لكنه آتٍ، لتُفتح فيه أبوابُ منازل الأخوة لبعضهم البعض في كل وقت بعدما كانت مشرعةً للغرباء فقط، وليجتمعوا في صباح أو مساء ويتشاركوا في مشاريع مشتركة ويديروا أعمالهم معاً ويجنون أربحاهم معاً، ويعادوا من عادى أحدهم وينصروا أخاهم ظالماً أو مظلوماً ويرعوا المريض حتى يشفى والضعيف حتى يقوى والفقير حتى يغنى ويعلم كل مما لديه لأخيه الأخر علماً.
إنها تبشرُ بيومٍ يصبحون به رماحاً اجتمعن يأبين أن يكسرن أمام رياحٍ شرقيةٍ أو غربيةٍ ويمسون أسرة مرموقة تحظى باحترام الآخرين وتنطلق بدورها في الحياة بنشر العلم والإبداع والأخلاق والعدل، وتضرب يد الظالم أيا كان وتنصر المستضعفين في الأرض وتطعم الطعام على حبه أي قوم كانوا أو أي دين وتزرع قيم أخوةٍ أكبر وهي الأخوة البشرية لتتعارف الأمم وتعمر الأرض بالحضارة والسلام.
شكراً يا أخي على تلك الدموع المنهمرة الممزوجة بالحب والألم الصادق لأنها نزلت على بذور في أعماق قلوب الكثيرين من أخوتك في العالم فاهتزتَ وربتَ، لتؤكد أن الأخوة بين المسلمين تغفوا ولا تموت، وإن ماتت لدى البعض فهم قلة وإن غفت لدى الكثير فهي تصحوا مع أول قطرة دمع من عيوني شيخ طاعن في السن شاب وهو ينتظر تلك اللحظة وتثبت أنها أقوى الروابط وأصدقها وأبقاها.