بقلم: أحمد يزنبين تلك الأسوار وبين الجدران الصماء، كان الألم والحزن واليأس يخيم علينا دائماً، وكان السجن موحشاً، نسمع أصواتاً من الخارج، نحزن… نفرح… نتفاءل… نتشاءم، ولكن كنَّا في ذلك المكان ليس لنا أنيس يؤنسنا إلا شيء واحد، هو ذلك الأذان، الذي كانت تصدح به حناجر المؤذنين عند كل وقت من أوقات الصلاة، وكان أشد ما يدخل الراحة والبهجة إلى قلوينا، ذلك المؤذن في مسجد قريب من مكان وجودنا، وهو يترنم ويتغنى بكلمات الأذان في وسط سكون الصحراء والظلام، قائلاً: الله أكبر الله أكبر..ترتفع كلمة الله أكبر عالياً تخيف الظالمين، وتدكُّ عروش الطغاة المجرمين. وإنَّ أشدَّ ما يبهجنا في الصباح أيضاً، هو سماعنا صياح الديكة القريبة وكأنَّها تقول للعالم: هلمُّوا إلى العمل… هلمُّوا إلى النجاح والفلاح… ودعوا الكسل، غير أنَّ أكثر ما يقلقنا أصوات الحرَّاس على السطح، ونباح بعض الشَّرِطة في سكون الليل، فرضوا علينا حياة روتينية مملة ورتيبة، علينا أن ننام في الساعة السادسة مساءً حتى لو كان الوقت بعد العصر والشمس ما تزال تضيء العالم، كان علينا أن نستيقظ في الساعة السادسة صباحاً، وعلينا أن نبقى مستلقين نائمين طيلة الليل، لا نتحرك أو نتقلب، استيقظ إبراهيم من نومه متسائلاً عما مضى من الليل، وكان راقداً ملتفاً بمعطفه. ولم ينقص وجهه اصفراراً من شحوب الموت الذي أحدثه المرض فيه، ولا من لحيته السوداء التي نمت في عدة أسابيع، انطلقت حنجرة ذلك المؤذن، وراحت تملأ الدنيا، الله أكبر الله أكبر… كان ذلك في اليوم الثاني من دخولنا ذلك السجن الرهيب، استيقظنا وتوضأنا ووقفنا نصلي بعد أن أممنا أحدنا، واتصلنا بربنا، وفجأة ونحن في الصلاة، نسمع الحرس يصيح بملء فيه، قف… قف… هناك دورية في الليل يخرج فيها العريف ليتفقد الحراس، وفي الوقت ذاته، يتلصص علينا من شراقات المهاجع باحثاً عن صيد ثمين، عن سجين يعمل أي شيء، نسمع أصوات أقدام الحرس والعريف تقترب من شراقة مهجعنا، سرعان ما قطعنا الصلاة وبسرعة البرق وخلال ثوان كان الجميع مستلقيا على الأرض متظاهراً بالنوم، دون دثار أو غطاء سوى ما جئنا به معنا، وخلال الأيام الثلاثة الأولى لم يعطونا أي شيء من دثار أو غطاء أو أية آنية تلزمنا، ولكن بقي أحدنا منتصباً متابعاً صلاته وهو يقرأ، وما إن وقعت عيونهما عليه حتى جُنَّ جنونهما، طرقا الشراقة طرقاً عنيفاً، وصاح العريف: شو بتعمل ولا..؟! بتصلي؟! ما بتعرف الصلاة ممنوعة يا ..؟. وبلا مقدمات سيل هائل من (الكفريات) والشتائم تخرج من فم العريف، أجابه السجين، وقد بدت عليه علامات الخوف، وبصوت متهدج خافت: لا أعلم. فقال له العريف: على كل حال، روح نام، وبكرا حسابك. وراح يتوعد ويهدد مستخدماً أشنع الألفاظ وأسوأها: ” بكرا رح تاكل دولاب غير شكل وبدي سجلك يا.. مع الأموات”.خوف شديد انتابنا، وهلع وذعر أصابنا من المجهول، ماذا سيفعل بأخينا؟ في صبيحة اليوم الثاني، جلس كل منَّا مكانه، خائفاً مرعوباً، يدعو… يسبح… يستغفر… لتبدأ الشرطة بمداهمة المهاجع وإدخال طعام الفطور، إلى أن وصلوا مهجعنا، نادى العريف على رئيس المهجع وطلب منه: طالع اللي كان بصلي البارح.خرج ذلك المصلي فوضعوه في الدولاب مباشرةً، وبسرعة البرق، كان أربعة جلادين يضربونه بسياطهم، وهم يكفرون ويلعنون، وصار يُضرب من أي شرطي أو رقيب أو عريف لفترة طويلة.يتبع..