طالب سواس |
حين يُذكَر الفن تذكر حلب، ولكن حين يذكر النشيد الديني في سورية لا بد أن يذكر زهير منيني، ذلك العملاق الذي ملأت ألحانه الآفاق، توفاه الله في الأمس (بتاريخ 17 صفر 1440هـ – 26/10/2018) رحمه الله تعالى رحمة تليق بواسع رحمته، عن عمر يناهز 89 سنة، فأحببت أن أكتب شيئاً من ذكرياتي عنه، وفاءً له، رغم الظروف التي نعيشها، ورغم أنه – حسب ظني – غني عما أكتب، جزاه الله عنّا خيراً.
من هو زهير منيني؟
اسمه زهير وَضْحة ابن محمود، ولقب العائلة الشائع “منيني” نسبة لـ”منين” بريف دمشق، وهو من مواليد دمشق، والده شاعر وشيخ الطريقة الرشيدية في دمشق، وله أخ فنان وملحن وباحث اسمه عدنان، توفي قبل زمان، والأستاذ زهير معروف بالتلحين لدى أهل الغناء وأهل النشيد وأهل الخط معاً، يعزف العود ويغني ويلحن ويخطط اللوحات…، لكن شهرته الكبرى بالتلحين، ثم بالخط، ولحسن حظنا أن أمد الله في عمره فكنا نستأنس بوجوده في زماننا، لكونه آخر من نعرف من تلاميذ عمر بطش.
وأقول لمن لا يعرف زهير منيني: هذا الرجل يلحن منذ ستين عاماً لا يهدأ، وألحانه حاضرة في الحفلات والإذاعات والشاشات والموالد والمساجد …، وقلما يوجد في بلادنا منشد أو مطرب تراثي إلا غنى من ألحانه، وربما لا نجد بيتاً في سورية لم يدخله لحن من ألحانه بالتلفاز أو الإذاعة …
ألحانه بالمئات، يصعب إحصاؤها، وأغلبها ديني، وفيها الأغاني الغزلية والنشيد الوطني، ومعظمها بالفصحى ..
وأذكر مرة كان يطلعني على كتاب فيه بعض ألحانه القديمة، مكتوبةً ومنوطة بخطه الجميل، فوصل إلى لحن فقال: “لااااا هذه لحنته أمس”! من كثرة ألحانه وطول عهده بالتلحين، كرر تلحين كلمات كان قد لحنها من قديم، وإذا لم تخطئ ذاكرتي كانت الكلمات “قلت للمحبوب صلني لو بطيف في المنام”.
ذكريات في الدكان
كنت أزوره في دكانه في دمشق “بمنطقة البحصة” كلما استطعت، أراقبه من خارج الدكان وأتسنّح فرصة لأدخل، كنت أجهّز في ذهني أسئلة وأحاديث، وأفتعل مقدمة للزيارة قبل أن أدخل، وربما أمضيت وقتاً وأنا أحوم حول دكانه ثم أستحيي فأرجع! كان يمضي وقته في عمله بالخط، والتلحين، وكنت أتأمله من وراء الجام البلور وهو يستخرج ويولّد جُمَله الموسيقية بالدمدمة، ويعزفها بأصابعه ليسمعها على آلة كهربائية صغيرة، ثم يدونها …
حين أدخل إليه يتوقف عن عمله فوراً ويرفع كل ما في يده ويتفرغ – ذوقاً منه – للحديث، أبدأه بمقدمة مستفزة للذاكرة ليحدثني عن الماضي، فيحكي لي في كل مرة زاوية جديدة من زوايا الماضي، هو يحكي وأنا أحفظ أو أكتب، واصطحبت أكثر من مرةً كتاباً فيه ألحان دينية وتراثية ورحت أسأله عنها وهو يحكي لي وأسجل…
أحياناً يأخذنا الحديث فيخشع بذاكرته، ويأتيه الحماس فيخرج بعض الجواهر الفنية من الأدراج ويحكي لي عنها، فمنها مخطوطات، ومنها صور عمرها ستون سنة مع أستاذه وزملائه في رحلة بحلب… ومنها دفتره الذي كتب فيه دروس الشيخ عمر له…
ألحان زهير منيني (ألحان زهيرية)
لحن على قوالب عديدة وإيقاعات كثيرة، من الطقطوقة حتى الموشح، وجدّد في أساليب التلحين، وكانت ألحانه تعبر عن مرحلته الوسيطة بين القديم والجديد، وهي ألحان زهيرية يمكن تمييز كثير منها، وليس فيها تقليد، وأنا أدّعي أنه أضاف للدنيا الكثير من الجُمَل اللحنية الباهرة والعجيبة، لم تعرفها الآذان من قبل، ولا ينقص كثيراً من ألحانه إلا مُنْتِج قوي، وصوت شجيّ، وتوزيع بَهيّ، لتسمع الدنيا ما لم تسمع به؛ والمتأمل لألحانه يجد التوافق الدائم بين المعنى والمغنى.
والألحان الدمشقية نميـزها في حلب بأنها هادئة لينة، ودرجة حرارتها فاترة قليلاً، وفيها شيء من الطبيعة الدمشقية، وأما الألحان الحلبية فهي أكثر سخونة، وفيها شيء من العنفوان الحلبي، مع صلابة ورزانة، لكن ألحان الأستاذ زهير ليست دمشقية 100% بل فيها نكهة حلبية بنسبة 25% أو أكثر أو أقل، وهذا يزيد الخير خيراً.
حين كنت أزوره – بين سنة 2005 و 2010 – كان يلحن – حسبما بدا لي – بمعدل لحنين في الشهر، وهو شيخ كبير، وكان يختار كلمات ربانية لها معنى ومغزى، ولحن لكثير من الشعراء المعاصرين، وربما لا نجد عالماً ينظم الشعر في دمشق إلا ولحن من كلماته؛ وجدير بأهل الفن في دمشق أن يتفاخروا به وبألحانه حيثما رحلوا.
زهير منيني بين الغناء والنشيد
مرّ المرحوم بفترة شباب وظهور، لحن فيها الأغاني لمجموعة من المطربين المشهورين، ثم اعتزل الغزليات وتفرغ لتلحين “الكلام الهادف والديني”، حتى إنه بدّل كلمات بعض ألحانه الغزلية القديمة بكلمات دينية، مثل موشح “يا غزال الرمل”، وضع له كلمات “يا إله الكون”! وفي ذلك دلالات كثيرة!
قال لي مرة عن هدفه من تلحين التواشيح الدينية – رغم السأم من الأوضاع والظروف – “أريد أن أنهض بهذا الفن”!
وللعلم، معظم الأناشيد الدينية التي كنا نسمعها من منشدي دمشق في التلفزيون السوري كانت من تلحينه، وهي جميلة، لكن كان يغطي جمالها نمطية التلفزيون ومعدّي البرامج.
موشح يا غزال الرمل
روى لي أنه كان في إجازة من خدمة الجيش الإلزامية فسافر إلى حلب ليزور أستاذه عمر بطش، وكان قد لحّن موشح
يا غزال الرمل[1] واوجدي عليك كاد سري[2] فيك أن يُنتَهكا[3]
من مقام “الحجاز كار كرد”، وأراد أن يسمعه لأستاذه، وحسب ذاكرتي أن هذا الموشح كان أول تجربة لحنية جادة له، فأعجب الأستاذ بلحن تلميذه وصار الأستاذ يسمع الآخرين هذا اللحن، وسمعت أنه ضم هذا الموشح إلى وصلته “يمر عجباً، في الروض أنا شفت الجميل، يا بهجة الروح”، فطار اللحن وحفظه القدامى والجدد، حتى سمعت بعض كبار الفنانين ينكرون نسبة الموشح لزهير وينسبونه لعمر، ويقولون: علّمنا إياه عمر بطش، وكيف يعلمنا لحناً لتلميذه؟
والموشح جزء من قصيدة الشاعر محمد سعيد الحبوبي
هزَّت الزوراء اعطاف الصَفا فصفت لي رغدةُ العيش الهَني
زهير اجتماعياً
أولى زياراتي له كانت في بيته بطلب مني وبرفقة الدكتور شهاب الدين فرفور، استضافنا ورحب بنا وضيّفنا بيده، أهديته كتاباً أظن عنوانه “أخبار من غنّوا وغنّي بشعرهم”، وفي المجلس طلب منه صاحبي أن يعزف لنا شيئاً ويغني من ذكرياته القديمة فاعتذر، وبعد إلحاح جلب العود وعليه غبار قديم فغنى وعزف بخجل!!
وقد ذكر أمامي أكثر من مرة عن أيام صحبته لعمر بطش في دمشق، ورحلاته للتنزه معه في الربوة، وكيف كان يركب معه بالدراجة “البسكليت”، وكيف كانت زوجته تحثه باستمرار على استضافة الشيخ عمر وإكرام ضيافته.
كان رحمه الله يعيل أهله بنفسه، حتى آخر عهدي به، ولم تكن ظروفه الاجتماعية سهلة أو مثالية، بل كان فيها ابتلاء كثير…
زهير منيني بين دمشق وحلب
كان أ. زهير يتذمّر كثيراً من الجو الفني في دمشق، وكثيراً ما رأيته ساخطاً على منشدي دمشق، وانشغالهم بالذي هو أدنى عن الذي هو خير، متهماً كثيراً منهم بعدم تقدير الفن الأصيل وزهدهم فيه…، في المقابل كان يمتدح الحال في حلب ويبدي إعجابه بتقدير المنشدين للأصالة! قد يكون رحمه الله مبالغاً في هذا، ويتحدث من حرقة وغيرة على النشيد، وربما كان السبب قرب الدمشقيين منه، وبعد الحلبيين عنه، حيث يزهد القريب بالقريب، ويطمع البعيد بالبعيد، فالمنشد الحلبي إذا زار دمشق يغتنم فرصته ويحرص على زيارة زهير وأخذ شيء عنه، وإذا زار الأستاذ زهير حلب يجد ترحاباً واحتفاءً استثنائياً، وحيثما طاف فيها سمع ألحانه وألحان أساتذته، ووجد الدنيا كلها فناً بفن، فتنطبع في المخيلة هذه الحفاوة وكأنها هي الحال الدائمة في حلب…
ذات يوم أبلغني الشيخ د. شهاب الدين فرفور بزيارته لحلب برفقة أ. زهير، وكانت استجابة لدعوات متكررة مني ومن غيري… وكان لقاؤنا يوم الجمعة في حلب القديمة، واتجهنا إلى الزاوية الهلالية في حي الجلوم، وهي متحف فني لا نعرف له مثيل من جنسه في بلادنا، وكان الشيخ جمال الهلالي يدير حلقة الذكر والشيخ مسعود خياطة يدير النشيد… والخلاصة أن الشيخين كرّموا الضيف بشغل “فصل ذكر” نادر لا يُعرَف إلا في هذا المتحف، وربما لا يشغل إلا مرة في السنة، وليس من المألوفات في عالم الذكر والزوايا، وقد اكتشفت مدى إعجاب أ. زهير مما رأى وسمع في هذه الزيارة من خلال حديثه عن ذلك اليوم فيما بعد، فكان يتحدث أمامي – وهو الخبير بفن الذكر – بدهشة، ويصف بغرابة حركة “الذكيرة” على إيقاع الأكرك مع الإنشاد…
زهير منيني وفن الذكر
سمعت منه مراراً عن الطريقة الرشيدية التي كان يترأسها والده في دمشق ثم انقرضت، وسمعت منه بعض مقدماتها الفنية الرائعة التي لم تعد محفوظة، وهي بمنزلة الألحان التراثية الجميلة المندثرة، فتحدثت إلى صديقي أ. إبراهيم مسلماني عن ضرورة الحفاظ على ما تبقى بذاكرة “منيني” من الرشيدية، لعلمي باهتمامه بالفن القديم وفن الذكر، ووجدته أيضاً متشوقاً لحفظ ذلك، فرتبنا موعداً مع الأستاذ زهير في منزل بركن الدين في دمشق، ودعوناه وأخبرناه بما نرغب فاستجاب بترحاب وكرم، وجلسنا نغني ونسمع، وغنى معنا رغم تعبه وكبر سنّه، وسجلنا له بالصوت والصورة كيف كان أسلوب أداء منشدي الزاوية الرشيدية – حسب ما جادت به ذاكرته – والحمد لله، ولا ندري أنحن أول من فعل ذلك، أم سبقنا بعض الدمشقيين الغيورين.
اختيار الكلمة عند زهير منيني
كان أ. زهير مثقفاً واعياً، يتذوق الشعر، ويميز سقيمه من جيده، ويعرف بالنظم، وله شيء من النظم الخاص بألحانه، وقد لاحظت أن أكثر ما يميل إليه من الكلمات هي التي فيها ثناء على الله ودعاء له، ثم يلي ذلك مديح الرسول والمناسبات الدينية، وجميعها تقريباً بالفصحى.
لم يكن يميل إلى الحداثة الفجّة في الشعر، بل يغلب عليه اختيار الشعر السلس، الأقرب إلى التراث، وشيء من الحداثة البسيطة، فلا أعرف له ألحاناً من شعر رمزي مغرق في الرمز مثلاً.
ويمكن للمتأمل في مطالع ألحانه أن يفهم ما في قلبه، وهذه خمسة أمثلة:
- يا ربّ هيء لنــــا من أمرنا رشـداً واجعل لنا منك في آدابنا سبباً
- قبل الســــــؤال تجيبني لسؤالي يا ســـامعاً قبل المقال مقالي
- ربيـــــع الســــرور أنــار الســــبيل وأهدى لنا كأسـه السلسبيل
- تآنس بذكر الله في القلب والحشا عساك تنال بذكر الله ما تشـاء
- أحســــن ببارئك الظنون فكم وكم في رمش طرف يسر الإعسار
توصية وخاتمة
فعلاً تستحق “ظاهرة زهير منيني وفنه” أن تدرس في رسائل دكتوراه، ففي ثنايا ألحانه أفكار وإشارات ومعانٍ وحِيَل إبداعية يفهمها المتأملون…[4]
رحمك الله يا أستاذنا، لو اخترت طريقاً غير طريقك لذكرك أهل الدنيا أكثر، ولكسبت من الدنيا أكثر وأكثر، لكنك اخترت ما ينفع الناس على ما يمكث في الأرض من الزبد، وستبقى الأجيال تنشد من ألحانك، ذات الكلمات الطيبة، فتترحم عليك، ويكون قبرك روضة من رياض الجنة إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – في القصيدة الأصلية: يا غزال الكرخ، استبدلت الكلمة بعد التلحين لغرابة “الكرخ” في زماننا.
[2] – تروى أيضاً سترى.
[3] – وتروى ينهتك.
[4] – أخبرني الأستاذ زهير وهو يشرح لي تفاصيل هذا اللحن كيف أنه استعمل أسلوباً أو جملة لحنية غير مألوفة في الألحان التراثية عندنا، وهي في أول كلمتين من الشطر الثاني “كاد سري”، حيث جعل الانتقال بين العلامات الموسيقية عمودياً متوالياً، وسمى ذلك بمصطلح نسيته.