بلحظة واحدة عليك أن تنزع نفسك من نفسك وترتدي ثوبًا فولاذيًا، لتدفن ما تبقى منك في منزلك. بلحظة واحدة عليك أن تُخفي كلَّ أثر لك، لتبدأ بالجزء الأهم فيك وهو (قلبك)، لا تلتفت إلى دموعك التي شربتها وسادتك، ولا تأبه لصدى ضحكات العائلة التي تتردد في مسمعك، ولا تعبأ بنهر الذكريات الذي تفجّر فجأة تحت قدميك وراح يسحبك حتى يغرقك، بلحظة واحدة عليك دفن سنوات وربما عقود لأنك ستُرحَّل إلى المجهول، ادفن ما عليك دفنه منك واحمل معك ما تريد منك..
لا تُقبّل الأبواب ولا توصي الجدران ولا تتمسّح بالأثاث لأنه لا وقت لديك، عليك أن تستجيب لصوت الحياة الخافت قبل أن يصل إليك الموت الذي بدأ بالتهام المنطقة، بلحظة واحدة عليك أن تفعل كل هذا وأن تخرج إلى العالم بصمود لا يشبه الصمود.
عرّف القانون الدولي التهجير القسري: بأنه إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان والأرض التي يقيمون عليها، وهو يندرج ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية.
أما مفهوم التهجير القسري فهو: ممارسة تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء أراضٍ معينةٍ وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلًا عنها.
في سورية التي تعد صغيرة نوعًا ما مساحةً، حصل التهجير القسري المتكرر والممنهج بحقّ ملايين السوريين في عدة مناطق، حيث عمد النظام مدعومًا بحلفائه (الروس والإيرانيين) إلى تهجير السكان وإجبارهم على مغادرة مناطقهم من أجل التغيير الديموغرافي.
فبعد أن انضمت روسيا علنًا إلى إيران في دعمها اللامحدود للنظام انقلبت الموازين لصالحه بعد أن فقد السيطرة على قرابة 80% من الأرض السورية، فساعدت النظام بتنفيذ عمليات التهجير القسري من أجل التغيير الديموغرافي فـ “سورية لمن يدافع عنها” كما قال رأس النظام السوري بشار الأسد، وتفسير قوله: حتى لو كان من يدافع عن سورية من غير أهلها فهي له، ومن يساعد الأسد روسيا وإيران ومليشيات عراقية وأفغانية ومرتزقة كثر.
سنستعرض في هذا المقال سلسلة التهجير القسري التي تمت إلى الآن في سورية، ولا ندري إن كانت ستستمر ونضيف تواريخ جديدة!
كانت أولى عمليات التهجير في مدينة حمص 7/5/2014 حيث تمَّ تهجير 2400 من المعارضين للنظام من أهلها باتجاه الدار الكبيرة في الريف الشمالي.
ثمَّ (داريا 26 /8/2016) حيث تم تهجير ثمانية آلاف من أهلها بعد حصار دام قرابة الأربعة أعوام، وتم وقتها تهجير أربعة آلاف مدني إلى دور إيواء بريف دمشق، كذلك تهجير سبعمئة من مقاتلي المعارضة مع عائلاتهم إلى إدلب وأصبحت المدينة خاوية من أهلها بعد ذلك التاريخ.
ثم قدسيا والهامة (14/10/2016) حيث تم تهجير ألفين وخمسمئة شخص بينهم 350 شخصًا من المقاتلين هُجروا إلى إدلب.
ثمَّ معضمية الشام في (19/10/2016) حيث هجّر أكثر من 2900 من أهلها بينهم سبعمئة مقاتل باتجاه إدلب بعد حصار دام ثلاث سنوات.
ثم تهجير أهالي خان الشيح وزاكية (29/11/2016) حيث تم تهجير أكثر من ألفين وتسعمئة شخص بينهم ثلاثمئة وخمسون مقاتلًا من المعارضة باتجاه محافظة إدلب.
ومدينة التل في (2/12/2016) من العام نفسه حيث تمّ تهجير نحو أربعة آلاف شخص بينهم حوالي خمسمئة مقاتل باتجاه إدلب بعد حصار دام قرابة العام لأكثر من ثلاثمئة ألف في المدينة.
وخُتم ذلك العام (ببطولة تاريخية) وهي تهجير أهالي حلب الشرقية (16/12/2016) بعد حملة عنيفة وعمليات عسكرية غير مسبوقة لأكثر من مئتي ألف شخص بينهم حوالي سبعة آلاف مقاتل مع عائلاتهم باتجاه ريف حلب الغربي والشمالي وإدلب، وكان هذا الإجلاء برعاية روسية تركية.
أعجب النظام ومن معه بنجاح تجاربهم، فكرّروها في وادي بردى في (30/1/2017) حيث تم الاتفاق على إجلاء ألفين ومئة من مقاتلي المعارضة مع عائلاتهم باتجاه إدلب.
وكان حي الوعر هو الحلقة التالية من عرض التهجير القسري، حيث هُجِّر أهله إلى ريف حمص الشمالي (18/3/2017).
ثمَّ الزبداني ومضايا، فيما عُرف باتفاق المدن الأربعة وقد تم توقيع الاتفاق في أيلول 2015 بين فصائل المعارضة وإيران وحزب الله وقوات النظام، ونُفّذ في 12 /4/2017 حيث تم إخراج قرابة ثلاثة آلاف شخص من مضايا والزبداني وبلودان باتجاه إدلب، مقابل إخراج 1500 معتقل معظمهم من النساء.
ثم استكمال تهجير أهالي ريف دمشق (الغوطة، ودوما) ثم ودرعا وريف حماة و دير الزور وكلهم هُجروا سنة 2017 بالإضافة إلى الرقة في العام نفسه.
وفي سنة 2019 تم تهجير أهالي ريف حماة كلهم لتُعلن محافظة حماة خارج حسابات المعارضة، حيث هُجر الأهالي وقتها إلى أرياف إدلب الجنوبي والشرقي.
ومؤخرًا استُفتِح العام 2020 بتهجير أهالي ريف إدلب الشرقي والغربي وريفي حلب الغربي والجنوبي، حيث أُجبر أكثر من مليون شخص من الأهالي على ترك منازلهم منهم المهجرون من كل سورية، ومنهم أهالي المنطقة الذين زحفوا كلهم نحو ريف حلب الشمالي ليواجهوا موتًا جديدًا وهو الموت بردًا وجوعًا.
والسيناريو المطبق في كل تهجير، كان ضمن خطةٌ لم يعرف التاريخ مثيلاً لها، فأولها حصار مطبق على عنق الحياة في المناطق الثائرة أو الخارجة عن سيطرة النظام، وثانيها تفشي الجوع، و ثالثها خروج المراكز الطبية والمستشفيات عن الخدمة، و رابعها الحرب النفسية، وخامسها وهو الأهم القصف الجوي المكثف ضمن سياسة الأرض المحروقة انتقامًا من البشر والشجر والحجر، ويعقب هذا التهجير التغيير الديموغرافي المتمثل باستباحة منازل المهجرين ونهبها ثم حرقها من قبل الطائفيين الذين أتى بهم الأسد.
ولقد خدمت سياسة التهجير أطماع إيران التوسعية بنشر التشيع في أرجاء سورية وإسكان عناصر من الشيعة مع عوائلهم في منازل المهجرين، كذلك كان للعب في السجلات العقارية والمدنية أهمية في تمرير هذا المشروع من خلال نقل ملكية المنازل من أصحابها الأصليين المهجرين إلى الشيعة الذين أوتي بهم من بلاد أخرى.
بين صرخات السوريين المطالبين المجتمع الدولي المُقعد بالتحرك من أجل إنهاء هذه المذبحة، وفيتو الدب الروسي والتنين الصيني، وتذرّع المجتمع الدولي بأنه لا يستطيع التدخل في شؤون دولة ذات سيادة، يستمرّ مسلسل التهجير بعرض حلقاته المُنتجة في دمشق وموسكو وطهران، ويستمر فرح المخرجين بنجاح أجزائه وتبقى سورية المغتصبة تلفّ أروقة المحاكم الدولية ليُحاكم مغتصبها، فهل تُنصف ولو بعد حين؟!.