نتابع مع كتاب سنوات الظلام للمؤرخ الفرنسي جوليان جاكسون، الذي يتحدث عن الطريقة التي واجهت بها فرنسا الغزو الألماني، فقد انقضّ هذا الغزو على فرنسا ليحطم أوهام القوة لديها ومن بعدها آمال الصمود، ففرضت جيوش هتلر على فرنسا معاهدة مذلة بحيث تستفيد ألمانيا من كل ما تبقى من قوة في فرنسا من يد عاملة ومستعمرات، وكان هذا الاتجاه لدى المارشال بيتان بدعوى الواقعية كما فسرها.
لكن رجلاً واحدًا رفع صوته ورفض هذا الاتفاق من باريس وكان ذلك الرجل هو الجنرال شارل ديجول نائب وزير الدفاع في وزارة بول رينو وأمر المارشال الأسطوري بالقبض على الجنرال المغمور لكن ديغول الذي كان بين مهامه أن ينسق العمليات على جبهة نورماندي بين الجيوش الفرنسية والجيوش البريطانية قرر أن يتوجه الى لندن ليقود من هناك حركة مقاومة باسم فرنسا الحرة.
وكان يقينه الذي لم يتزعزع أن كل دعاوى “الواقعية” هي استسلام لضغوط لحظة تنسى التاريخ وتتنازل عن الحقيقة وتتهاون في المستقبل. ويقينه أن الثلاثة (التاريخ والحقيقة والمستقبل) أهم وأبقى من صدمة حادثة ومن “لحظة ضعف” لا يجوز التأسيس عليها، ثم البداية منها ونسيان ما عداها.
وفي لندن بدأ ديجول يتصرف على أنه ممثل لإرادة فرنسا وثمَّ الشرعية الفرنسية وفي رأيه كانت حكومة بيتان “الواقعية” حكومة غير شرعية – ليل من الظلام نزل على فرنسا.
إقرأ أيضاً: سنوات الظلام فرنسا 1940- 1944.. (2)
كان شارل ديجول الذي ترك باريس قبل سقوطها رافضًا استسلام فرنسا وداعيًا إلى استمرار الحرب ضد ألمانيا حتى من خارج التراب الفرنسي كله إذا اقتضى الأمر رجلاً يملك حلمًا لكنه لم يكن رجلاً خياليًا.
كان الجنرال شارل ديجول الذي هبط من آخر طائرة غادرت مطار بوردو الحربي قبل أن تشق القوات الألمانية طريقها إلى باريس، رجلاً يمسك في يده “بحلم” ويرى لنفسه مشروعًا سياسيًّا تصوغه حقائق مستقبل لا تقعده “واقعية” اللحظة.
والشاهد أنه بالشكل العام للصورة كان يمكن أن يبدو ديجول خياليًّا أكثر منه حالمًا، فالدولة الفرنسية والحكومة ضاعت منهما إرادة المقاومة، والشعب الفرنسي في حالة ذهول يتابع مأخوذًا حركة جيوش العدو الألماني التي تنفذ إلى قلب الوطن وجيوش فرنسا تنكسر شظايا وعاصمة النور تنطفئ فيها الأضواء حيًّا بعد حي وشارعًا بعد شارع وبيتًا بعد بيت.
لكن ديجول كان قادرًا على تجاوز الواقعية والنظر بالرؤيا إلى تخوم المستقبل وقد عدَّ نفسه، ولو حتى وحيدًا، رمزًا لمستقبل فرنسا الحرة.
ولم يكن تشرشل (رئيس وزراء بريطانيا) الذي أذِنَ لديجول بأن يوجه نداء بمواصلة المقاومة للشعب الفرنسي فوق موجات الإذاعة البريطانية مقتنعًا بأن ديجول هو مستقبل فرنسا إلا أنه في تلك اللحظة كان الفرنسي الأرفع رتبة الذي ينادي بمواصلة الحرب ولو من خارج فرنسا.
في البداية كان تشرشل يتصور أن نداء ديجول سوف يدعو كثيرين أكبر منه وأهم كي يفعلوا مثله ويجيئوا إلى لندن ويواصلوا الحرب، لكن تشرشل فقد رجاءه من الانتظار وأدرك أن فرنسا ستظل ممثلة برجل واحد هو شارل ديجول حتى تتغير الظروف.
وكذلك طلب تشرشل إلى وزارة الخارجية البريطانية وإلى رئاسة أركان حرب الإمبراطورية أن تنظم اتصالاتها مع الجنرال ديجول وأن تتعاون معه.
وفي أول تقرير كتبه السير أليكسندر كادوجان الوكيل الدائم للخارجية البريطانية كانت صورة ديجول كما بدت لعميد الدبلوماسية البريطانية هي رجل له رأس في شكل فاكهة الأناناس الخشنة وله جسم على هيئة خضار الباذنجان الطويلة، وإلى جانب ذلك فإن لديه شعور متضخم دون سبب لدوره التاريخي، وفي أول تقرير كتبه الفيلد مارشال آلان بروك رئيس أركان حرب الإمبراطورية كتب لتشرشل في تلخيص لقائه مع ديجول: “هذا رجل لا يريد أن يحارب ولا يريد أن يلم شراذم الجيش الفرنسي التي خرجت مع قواتنا من دنكرك ويصنع منها فرقة مقاتلة تثبت نفسها في الحرب مع الألمان، لقد حاورته طويلاً لكنه بدا لي كأنه يريدنا أن نحارب، وأما هو فدوره أن يحكم ويقود، والمزعج أنه ليس لديه شيء يحكمه لا دولة ولا مدينة ولا قرية وليس لديه شيء يقوده لا فرقة ولا كتيبة ولا سرية من الرجال.”
لكن شارل ديجول كان “بالحلم” يعرف أكثر من موظف وصل بكفاءته الوظيفية إلى وكالة الخارجية البريطانية ولم يرَ في اللاجئ الفرنسي غير رأس الأناناس وجسم الباذنجان وكان يعرف أكثر من موظف آخر وصل بعلمه العسكري إلى رئاسة أركان حرب الإمبراطورية.
كان ديجول يُعرف بالرؤية الإستراتيجية كيف يفكر تشرشل وكيف يخطط للنصر، وظل متنبها إلى أن العنصر الأهم في خطة تشرشل هو كسب الوقت حتى تفيق روسيا من وهْم الرأسمالية التي تحارب بعضها بعضا، ثم تتحرك أمريكا قبل أن يتحول المحيط إلى عازل ويتحول العازل إلى سجن، ومن ثم ينفرد هتلر بكل الإرث الإمبراطوري الذي تفتحت الطرق إليه بعد سقوط فرنسا وعزلة بريطانيا في الجزيرة التي تحولت إلى قلعة موحشة تنتظر الغزو في أي يوم.
وعلى أساس المعرفة بهذه الرؤيا الإستراتيجية لتشرشل قدّر ديجول ورسم.
هو الآخر سوف يلعب على الوقت ولن يجره سوء ظن الدبلوماسية البريطانية في قدراته ولا إلحاح العسكرية البريطانية عليه ليجمع شراذم قوة عسكرية تستأنف حرب ألمانيا إلى جانب بريطانيا.
كان ديجول واثقًا من أن معركة القتال محسومة دون أن يشارك فيها ولم يكن متعجلاً لتنظيم حركة مقاومة في الداخل تجعل مهمة الاحتلال الألماني صعبة (لأنه كان يقدّر أن لحظة الذهول السائدة في فرنسا ليست هي بالضبط لحظة الدعوة إلى المقاومة خصوصًا أن هناك رجل في فيشي مثل بيتان بتاريخه المجيد يدعو “لواقعية” يُعطى لها في خطابه فسحة من الحكمة تُغطي بالرنين على الجوهر، وكذلك كان ديجول بالتوازي مع ذلك يدرك أنه لا يستطيع الآن أن يلملم من الشتات المبعثر للجيوش الفرنسية إلا قوة صغيرة تتنازل قياساَ عليها ولا تكبر؛ قيمة المشروع السياسي “الحلم” الذي يحمله.
ومع ثقة ديجول اعتمادًا على حسابه الزمن وفعله، رأى أن معركة تحرير أوروبا قادمة بعد سنة أو سنتين أو ثلاث لكنها حتمية.
ومع ثقة ديجول بأن الانتصار النهائي في الحرب لن يكون من نصيب الخيال مهما عاند هتلر،
ومع ثقة ديجول بأن هناك جيوشًا لمعركة تحرير أوروبا سوف تتدفق من الشرق (من الاتحاد السوفيتي) وسوف تتدافع فوق أمواج المحيط من الغرب (من الولايات المتحدة) فإن فرنسا الحرة ينبغي أن يكون لديها جدول أولويات يتسق مع “حلمه”، أي مشروعه السياسي.
وهنا يمكن فهم الإستراتيجية التي اعتمدها ديجول في تلك الأيام مبكرًا من يوليو وأغسطس سنة 1940. ففي تلك الأوقات التي بدت فيها الصورة أشد كآبة من أي وقت مضى وأشد ظلاما على فرنسا من أي وقت في تاريخها، كان ديجول يرسم لسياسته خطين:
الخط الأول: إن التراب الفرنسي سوف يتحرر بحقائق الأشياء.
الخط الثاني: إن الإمبراطورية الفرنسية، وليس التراب الفرنسي، هي المكشوفة الآن وغدًا.
وهنا كانت صيحة: “فرنسا ليست في خطر، بل الإمبراطورية في خطر.
إذا كان وجود فرنسا هو الوطن فإن عظمة فرنسا هي الإمبراطورية.
يتبع الجزء الأخير..
1 تعليق
Pingback: سنوات الظلام فرنسا 1940- 1944.. (الأخير) | صحيفة حبر