حامد الكيلانيالحروب في معظمها تؤدي أغراضها وتجتاز رحلتها العسيرة لتصل إلى تغيير البديهيات التي أدت إلى نشوبها، أي أنها تجريد العقل لإرساء أفكار مختلفة فقدت أسباب توترها أثناء رحلة العلاج الشاقة في ساحة الحرب ومدتها تعتمد على طبيعة المرض وتفاقمه، ومع بداية الشفاء تنفتح الآفاق للخلاص من نزعات العدوان، لأن القوة تتحول بعد تجربة العنف إلى حالة ضعف مستترة.الطريق إلى عيادة جنيف 3، يحتاج إلى تشخيص طبي موحد من قبل فريق المتخصصين الذين أشرفوا على صالة تفشى فيها وباء الحرب، وانحازوا إلى مريض دون آخر، وتفرقوا في العلاجات، ودخلوا في مهاترات في ما بينهم بلغات متعددة، واستخدموا كل أدواتهم المتاحة وما تعلموه في مناهجهم القديمة، فزادوا من توتر أعصاب المرضى، وانحطت الوصفات والأدوية لسقوط الأطباء في صراعاتهم، ذلك أدى إلى غياب الرعاية الأخلاقية وانحياز بعضهم إلى مراجعي عياداتهم الخاصة على حساب الباقين المصابين بجينات المرض على اختلاف درجات انتشاره في أجسادهم ونفوسهم.ما زلت أرى أن المشكلة الأكثر تعقيدا في مجريات المفاوضات بين الطرفين ليست في تشكيلة وفد المعارضة السورية، رغم الجدل والرفض والقبول، لكنها تجد لها حلا بالتفاهمات بين أطياف المعارضة الواسعة، لأنهم يعلمون مسبقا أنه لا يمكن إقصاء أي جزء من الشعب السوري اليوم أو غدا.تظل المعضلة في وفد النظام المفاوض الذي لم ولن يفاوض إلا على بقاء النظام وكسب الوقت وإفشال الحل السوري، لأنه على الأرض لا توجد مفاوضات بين طرفيْن سوريين، إنما بين أوصياء داعمين وفي الحقيقة محتلين تمثلهم روسيا وإيران، مقابل معارضة سورية سعى النظام الحاكم إلى خلق وتوفير كل المناخات المناسبة لتفتيت وحدتها وتشويه سمعتها وإضعاف قوتها بإطلاق سراح التطرف الذي فتك بها عسكريا وسياسيا ووجه أنظار العالم إلى مخاطر عولمة الإرهاب، وكان من نتائجه التراخي في إدانة جرائم النظام وتجاهل مصير شعب تحول في سنوات قليلة إلى شعب محكوم عليه بالموت والتجويع والسجون والإبادات لإجباره على ترك أرضه، وهنا تستقر أهداف المستقبل ومخططات وبرامج المشاريع الإقليمية والدولية.46 عاما من الحكم الواحد، والمعادلة حتما سجون وتعذيب معارضين وموت الآلاف ولو لمجرد “همزة لمزة”. الآلاف من الصور الموثقة ولم يقتنع العالم ليتحرك لإيقاف تداعيات وانهيار شعب ووطن عريق مثل سوريا.سلطة استفادت من حماقة الاحتلال الأميركي للعراق وإلغاء وتقويض مؤسساته العسكرية والأمنية والمدنية، وأعطت مبررا لمخاوف العالم من تكرار النموذج العراقي، وبعده النموذج الليبي وآثار تدخل حلف الناتو، وكل موجة ما عرف بالربيع العربي، صبت جميعاً في تدعيم موقف النظام السوري دوليا، ولا ننسى تراجع الدور الأميركي في المنطقة عموما نظرا لسياسات الرئيس الأميركي وتوقيع الاتفاق النووي مع إيران لتهدئة اللوبي الصهيوني وترحيل المخاوف الإسرائيلية إلى فترة لاحقة.بديهي أن نلحظ الغرور الإيراني في المنطقة، وتنامي الدور الروسي الذي وصل حد احتلال سوريا أو ارتهانها للوصاية وتكملة مشوار النظام في عقابه الهستيري تجاه الشعب، والحجة المتوفرة هي القضاء على الإرهاب وداعش.لذلك تأتي الإملاءات الروسية على المفاوضات المتوقعة في جنيف القادم والتهديد بوفد معارض جاهز للإعداد إلى مستقبل سوري يعيد عرض الشكل الديمقراطي للانتخابات على مدى 46 عاما، وهذا ما أكده الرئيس السوري في لقاء صحفي “لا أرى مانعا من ترشحي للرئاسة في الانتخابات القادمة”..الذهاب إلى مفاوضات لإيقاف حرب أهلية بحجم النزاعات في سوريا وتعقيدها، لا يمكن إنجاحه دون إلزام وإجماع دولي وإرادة موحدة تساعد الطرفين ليتفهما استحالة استمرار الحال على ما هو عليه، وإن أي نجاح يتوقف على الاستجابة لتنازلات من أجل وطن مدمر.تبدو المفاوضات في جنيف 3 صعبة وبداياتها طرف استماع ونقل تمهيدا للقاء المباشر، الأخطر هو توقف وفد النظام عند نقطة بداية ونهاية في مضمار ما قبل الثورة السورية السلمية، ورفض حل العُقَد المزمنة المتمثلة باستمرار الحاكم وبدعم وتدخلات روسية إيرانية وحذر دولي من مخاطر الإرهاب.بوادر تفعيل المفاوضات والثقة بها وما يعرف بمنشطات الأمل، بالاتفاق بعد أيام من بدئها بين الطرفين على وقف إطلاق النار بإشراف دولي ورفع الحصار عن المدن والسماح للمنظمات الإنسانية بالانفتاح في عملها، تلك الاتفاقيات تمنح روح التفاؤل للشعب وأيضا للمفاوضين، وتطبيع الانفعالات والاتهامات وصولا إلى تفاصيل المرحلة الانتقالية وغيرها من سجالات السياسة.في سوح معارك الفرسان وكذلك في نزالات حل النزاعات شريفة الأهداف كمفاوضات الطرفين السوريين لا بد من احترام الخصم والتكافؤ، كشرط لقبول قناعات جديدة لبداية رحلة الشفاء العسيرة في عيادة جنيف 3. نقلا عن صحيفة العرب- بتصرف