مع الصعود الملحوظ للعملية التعليمية في محافظة إدلب، بدأ يخطر على بال الكثير من المهتمين بهذا المجال لماذا لم يتسنّ لهذا البلد في العقود الماضية أن يبرز علمياً و دراسياً ، أغلب المؤشرات تدلّ على أنّ الأسباب تنحصر في تحجيم النظام للمشاريع العلمية في السنين الماضية حيث كان يُظهر اهتمامه بذلك عبر إرساله البعثات للخارج أو عبر وسائل أخرى كبناء المدارس في القرى ، غير أنّ ذلك لم يكن إلا خطوةً استباقية يفعلها النظام لإيهام الطلاب أو حتى الأكاديميين بأنه مهتمٌ بمجال التعليم و ليُغطي على عشرات الأمور المعيقة لذلك في الحقيقة.
عمد نظام بشار الأسد على تقليل أهمية كوادر و عقول البلد بشكلٍ كامل و نتائج ذلك لا تزال ملموسة إلى الآن ، نسبةٌ كبيرة من خريجي الجامعات السورية من مختلف اختصاصاتها كانت قد اتخذت الهجرة سبيلاً لها ، كيف لا و المشاريع التنموية هنا إن وجدت كانت فقط تطبيلاً و تزميراً و هياكل يظنّ السامع بها أنها مشروع العصر و تبدأ أدمغة الشباب العاطلين عن العمل بالتحليق في أحلامهم الوردية ، إعلاناتٌ و برامجُ و لقاءاتٌ لمشاريعَ أشبه بالضحك على اللحى يُخيل للناس أنهم لن يروا طوابير البطالة بعد الآن و أنّ عصر تصنيف البلد في الدول النامية قد ولى.
بالطبع، إن الفساد الشامل لنظام بشار الأسد و رجالاته لم يستثنِ العلم و العلماء ، فالجامعات السورية و حتى الكبرى منها لم يختلف حالها عن باقي منشآت الدولة آنذاك ، فالرشاوى و ألاعيب ما تحت الطاولة و خلف الكواليس كانت عنصراً أساسياً في نظامها الحقيقي ، قد يظن لمن لم يتعمق بهم أن العدل سائد عندهم و أن رباطة جأش المحاضرين و المسؤولين هناك هي عنوان تعاملاتهم ، و أنهم حازمون بما يتعلق بأمور الامتحانات و التسجيل و غيرها ، نعم هذا صحيح و واقعي جداً و مُطبقٌ بشكلٍ كامل، و لكن ليس على من يملك المال و الوساطات المناسبة ، ليس على أبناء المسؤولين و الوزراء و الضباط ، هنا الحال يختلف فهاتفٌ واحد من سيادته حين ذاك يحل القضية ، يُنجِح و يُرَسِب، يُسجل و يفصل، يُبدأ و يُنهي، يُسهل و يصعب، يَحل و يُعَقد ، هذا بما يخص الجامعات و لكن ماذا بعد التخرج ؟ إنها دوامةٌ أخرى ما كاد ينتهي الواقع فيها من التي قبلها حتى يكتشف نفسه بها.
تبدأ بعد التخرج عوائقُ أخرى ، فإما أن ينقع حامل الشهادة شهادته و يشرب مائها، و إما أن ينتهي به الأمر في طوابير بطالة ألفية ينتظر دوره إلى أن يشاء الله ليأخذ دوره برقم على ورقة و هنا يطول به الحال نصف ساعةٍ لينتهي من قراءته ، كان هذا آخر ما يتذكره الشخص بعد أن يستيقظ من غيبوبته نتيجة إدراكه لهول الواقع ، فإما أن ينتظر دوره السحيق ذاك و إما أن يُنهي سنوات دراسته تلك عاملاً بإحدى المصانع و هذا إن تسنى له أو قاعداً في بيته شاعراً بعبئه على نفسه و عائلته ، هذا كان واقع من لم يستطع استدانة مبلغ كافٍ ليخرج من هذا البلد الكئيب بتلك العصابة اللعينة .
مساوئ الجامعات لم تكن إلا جزءاً من تلك المشكلة، ولتطبيق إمكانية عمل دراسات وغيرها مساوئ أخرى، بالطبع لو كان أحد المتخرجين قادراً على تنفيذ مشروعه بعد التخرج فإن عشراتِ العوائق ستقف أمامه، فتلك العصابة الحاكمة لا تريد لشيء في هذا البلد أن يتطوّر إلا مصالحهم وأجنداتهم.
في الوقت الحاضر بدأت عقول البلد تدرك نتائجَ تلك الممارسات الدنيئة و القبيحة تلك الوسائل الهدامة المُطفِئَة لشُعل هذا البلد الغني بالعقول و الخبرات و الإمكانيات، جميع مثقفي محافظة إدلب الآن أصبحوا يدركون هذا الأمر ، المئات من الأساتذة قد نذروا أنفسهم في سبيل أن يعلو هذا البلد من جديد ، نتائج هذا النهوض واضحةٌ في إنشاء المديريات و التنظيمات الدراسية التي أثبتت فاعليتها ، مئات المعاهد تعمل الآن في إدلب و ريفها ، تُدرس مختلف العلوم من دينية و علمية و أدبية و غيرها ، العديد من حملات التوعية تمضي في عملها و الكثير الكثير من النشاطات الثقافية تُمارس ، المراكز الثقافية بدأت تُفعّل نفسها بل و تفتتح فروعاً كان آخرها مركز اقرأ الثقافي الذي أصبح وجهة ثقافية لمدينة بنش و ما حولها لإقامة الندوات و الدورات العلمية و احتوائه على مجلدات و كتب وفيرة ، البهجة لهذا الصعود العلمي لدينا أصبحت واضحة في تعاملات و حديث كوادر و مثقفو المحافظة ، فاستغلال النظام لهذا المجال لعقود لم يستطع إطفاء شغف هذا الشعب العظيم للعلم بل و كان سبباً لما تشهده محافظة إدلب الآن من ازدهارٍ واضح للمجالات العلمية حيث رفع الجميع أصواتهم من معلمين و طلبة “هيا إلى العلم .. معاً إلى التعليم”.