عند الحديث عن أي صراعات مجتمعية في بلدٍ ما يتبادر إلى الذهن الأسباب التي ولَّدت هذه الصراعات، والتي ترتبط جُلّها بالنظام الحاكم لهذا البلد، إذ لا يخلو مجتمع من صراعات تختلف حدتها وانعكاساتها على المجتمع والدولة باختلاف المجتمع والنظام الحاكم، هذه الصراعات منها ما هو طبيعي يأخذ شكل التنافس المشروع بين أبناء المجتمع الواحد على اختلاف مكوناتهم للنهوض بمجتمعهم والوصول به إلى مصافي الدول المتقدمة علمياً وحضارياً، وهذا ما يتراءى في الدول المتقدمة التي تسود فيها الحريات ويعمل القانون فيها دون تمييز بين أبناء المجتمع المشتركين بالمواطنة تحت سقف الوطن الذي يعملون لأجله ليل نهار.
ومنها ما يأخذ شكل صراع مجتمعي بما للكلمة من دلالات يعمل عليه ويغذيه صُنَّاعُه لأجل مآربهم في السيطرة على الحكم، وهو ما انتهجه النظام السوري منذ ستة عقود ليتحكم بالمجتمع السوري ويقوده على هواه لا كما يريده مواطنوه السوريون الذين فُطروا على محبة وطنهم والتعايش فيه، وغالباً ما يكون السبب الرئيس لهذه الصراعات هو الطائفية التي تُولِّد الصراع على الوظائف والمناصب وكل مفاصل الدولة، وكل ذلك يكون على حساب الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص، ففي ظل النظام السوري الحاكم استُبعدت العقول والكفاءات، وتبدلت الثقافة المجتمعية السورية لتدخل في غربة أكلت فيها الطائفية المتحكمة حقوق الكثيرين وهمَّشت واستبعدت وأقصت فداءً لزارعها وراعيها الذي كلما دعت الحاجة إلى إنباتها وحصد المزيد من ثمارها النتنة التي يتغذى عليها رواها بصراعات متنوعة منها على صعيد المؤسسات ومنها على صعيد المعيشة، فلا تكاد تخلو مدينة أو قرية من عائلة متسلطة على محيطها يخشاها ويهابها كل من حولها، لأنها (مدعومة) صُعنت على عين النظام الذي يحميها، وهي بمنزلة شرطي في محيطها لحساب الجهة الأمنية التي تختار مثل هذه العوائل وفقاً لتاريخها وسجلها الحافل بالفساد والاعتداء وافتعال المشاكل والخروج عن القانون، فالنظام الحاكم كان يغضُّ النظر عمَّا تفعله هكذا عوائل من أشياء غير قانونية يُجرَّم ويُعاقب فاعلها، كتجارة المخدرات وترويجها، وتجارة السلاح وحيازته والتعالي به على الآخرين وغالبا ما يكون أداة للقتل، ولكي تغطى الجرائم لا بد من وجود مُخلِّص ذي منصب عالٍ وهذا غالبا ما يكون عضواً في مجلس الشعب يعينه النظام للحفاظ على ولاء العائلة وتحقيق المراد في خلخلة البنية المجتمعية وتركيبها كما يريد، فيتولد جراء ذلك الحقد والثأر والانتقام من قبل الناس على مثل هكذا عوائل ربما يكون فيها من لا يرضون بذلك، لكن السمعة السيئة تغلب وتجرُّ معها التعميم خاصة من قبل الذاكرة المجتمعية، ولا غرابة إبَّان قيام الثورة من انضمام الكثير من هؤلاء إلى صفوف (الشبيحة) والدفاع الوطني لأنهم بالضرورة يتبعون إلى أولياء نعمتهم وما انحيازهم إلا استكمال لمهمتهم التي وُظفوا من أجلها.
إن المثال السابق يضارعه العديد من الصور التي نرى من خلالها أسباب الصراعات المجتمع، فلو نظرنا إلى مؤسسات الدولة لوجدنا منها الكثير، وربما مؤسسة الجيش هي أبلغ مثال في توليد الصراع بين السوريين، إذ يُفترض أن تكون المؤسسة الأقوى التي تنتج التعايش والتمازج الثقافي بين أبناء الوطن الواحد نتيجة اختلاط كلِّ السوريين مع بعضهم فيها مدة زمنية من أجْلِ أسمى غرض يجمعهم وهو دفاعهم عن وطنهم والزود عنه، لكنها- وللأسف- الأول في بثِّ الحقد فيما بينهم، من خلال حصر الرتب العالية بطوائف محددة وبمن يواليها وممارسة التسلط والإهانة للعناصر، وكذا في كل المؤسسات ومفاصل الحياة.
لقد بلغ هذا الصراع ذروته إبَّان الثورة السورية، واستطاع النظام الحاكم تعزيزه على مستوى العائلة الواحدة، حيث تجد آراء مختلفة بين التأييد والمعارضة وصلت إلى وجود شاب يقاتل في صفوف النظام، وآخر يقاتل في صفوف الثوار! فضلا عن تعزيزه على مستوى الطوائف.
إن هذه الصراعات لم تكن يوما ضمن النسيج السوري قبل وصول هذا النظام إلى السلطة، إنما اختلقها وافتعلها بين أبناء الوطن الواحد لضربه في رئته التي تتنفس التعايش ليسود ويحكم ويستمر، وإن ما يُعاش ليس إلا حالة مؤقتة فرضتها المرحلة، سيُعاقب فيها مجرموها الذين تلطخت أيديهم بدماء أبناء جلدتهم لحساب هذا النظام، وذلك تحت مظلة الوطن والقانون الذي سيتعاقد عليه كل السوريين، وسيتبدل الصراع الذي اخُتلق وزُرع وسُقي بماء الطائفية إلى تنافس في بناء ما هُدّم من المجتمع لتعود سورية للسوريين، ويحيا فيها كلُّ من آمن بها ..