ليلةٌ لم يكن للقمر فيها وجود في سماء إدلب، ظلام دامس يعم على جدرانها وأبنيتها المكتظة بالسكان، أصوات نباح الكلاب وأضواء خافتة لسيارات مسرعة تمر بين الحين والآخر تخفف من وحشة شوارعها، فجأة بدأ هدير الطائرات يعلو على تلك الأصوات وعلى غير العادة انبعث صوت من مئذنة الجامع يصدح بـــ الله أكبر في غير وقت الأذان لا يقطع صوته إلا صوت صافرات الإنذار التي تدوي تنبيهاً من غارات محتملة تهدد أمن سكان المدينة التي نعمت بالسلام لأكثر من خمسة أشهر، كلها أشياء تنذر بالموت القادم من السماء لا محال، ليتهاوى على مسامع الأطفال والنساء والشيوخ صوت جديدٌ ربما لطائرة أو لسرب من الطائرات الروسية التي يعلو وينخفض صوتها كدقات قلب تتسارع خوفًا من قدر مجهول.
بدأت الغارات تتوالى الواحدة تلو الأخرى تلاها مجموعة من الضربات في آن واحد علت على إثرها الصيحات والصراخ على القبضات “حربي روسي أقلع الآن تعميم تعميم على أوسع نطاق أخلوا الأهداف المذكورة (تم التقاطها عبر المراصد).
أسرع سكان المنطقة المذكورة (الأبنية جنوب جامع الرحمن بمئة متر) في النزول إلى الملاجئ السفلية للاحتماء من قصف الطيران إلا أنّ بعضهم لم يعر للأمر أي اهتمام فقد اعتادوا على هذه الحال، أعلنت المراصد انتهاء الغارات وتصاعدت أعمدة الدخان الأبيض في السماء بشكل واضح على الرغم من الظلام الحالك وبدأت سيارات الإسعاف والدفاع المدني بالتوجه مسرعة إلى مكان القصف لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض وانتشال جثث من فارقوا الحياة، لقد سوّي بناء من سبعة طوابق على الأرض.
انتشرت عناصر الدفاع المدني في كل مكان بحثًا عن ناجين، “أسامة” قائد فريق في الدفاع المدني سمع صوت بكاء بعيد وضعيف فأشار للعناصر ببدء الحفر من اتجاه مصدر الصوت وبعد ساعات من العمل الشاق المتواصل تمكنوا من العثور على أحد عشرة شخصًا فارقوا الحياة وناج وحيد اسمه “صلاح” من المبنى الذي انهار بالكامل فوق رؤوس ساكنيه.
مشاهد الموت والدماء شبه يومية دامية تحمل في تفاصيلها قصصاً مؤلمة ومؤثرة تمر على فرق الدفاع المدني في كافة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام خلال عملهم إلا أن هناك لحظاتٍ لا يمكن للزمن أن يمسحها من أذهانهم خاصة إذا كان من ينقذونهم أطفالًا صغارًا كأولادهم تمامًا، وكذلك مشاهد أقارب الضحايا وهم ينتظرون عمل فرق الدفاع المدني وبارقة الأمل في نجاة من فقدوهم تحت الركام.
وأضاف أسامة في حديث لـ حبر: ” بعد عمل دؤوب انتشلنا صلاح ابن الأربعة أعوام من بين أحضان والديه الملتفين حوله كالدرع الحامي، جسمه بالكامل مغطى بالتراب الأبيض لم يكن يقوى على التقاط أنفاسه بسبب نقص الأوكسجين ولا يتوقف عن الصراخ والبكاء “ماما ماما” ثم نقلناه إلى المشفى لمعالجته.
وتابع أسامة: “خلال مغادرتنا للمكان اعترضنا رجل مسن بسؤاله “في حدا عايش طمني ابني الله يرضى عليك، ابني وعيلته هون ساكنين رد علي”
فأخبرناه بوجود طفل ناجٍ تم نقله إلى المشفى، فغادر الرجل المسن مسرعًا ليرى من تبقى له من عائلة ولده وإذ بحفيده صلاح هو الناجي من تلك الغارة.
أكثر ما ترك أثرًا في نفس أسامة حسب قوله عندما أخبره الجد العجوز عن وجود أخت لصلاح لا يتجاوز عمرها الشهرين فعاد مع الفريق ليكملوا البحث عنها لعلها تنجو أيضًا كأخيها، وخلال البحث وجد أسامة وسادة رفعها وإذ بداخلها الطفلة وقد فارقت الحياة، لم تحمله قدماه على السير بها لسيارة الإسعاف وأعطاها لعنصر آخر كاتمًا صرخة قهر وألم في داخله لأنه لم يتمكن ورفاقه من إنقاذها ولكن لا جدوى من الصراخ فصرخات الأطفال والنساء والشيوخ منذ سبع سنوات إلى اليوم لم تلامس قلوب العالم.
صعوبات كثيرة تواجه أصحاب القبعات البيضاء في عملهم أبرزها نقص المعدات المطلوبة لإنقاذ حياة المدنيين واستهدافهم بشكل مستمر من قبل النظام وروسيا إلا أنهم مازالوا مستمرين رغم كل ما يمرون به وشعارهم ” ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا”.
أيُّ عجزٍ وقهر نعيشه نحن السوريين بينما العالم المتحضر الذي يدّعي الإنسانية ويتباهى ببناء ناطحات السحاب يقف عاجزاً عن إيقاف هدم الأبنية فوق رؤوسنا؟!