جاد الغيث |
هكذا عنونت الروائية (هيفاء بيطار) الطبيبة السورية من الطائفة المسيحية، مجموعتها القصصية، حيث عبَّرت بقلمها وقلبها الموجوع عن مآسي سورية، فكانت مثالاً إنسانيًا ينظر إلى أوجاع الإنسان السوري بغض النظر عن دينه أو طائفته أو اسمه أو مدينته.
تُسمي الكاتبة أسماء قصصها بأسماء أبطالها الحقيقيين، عاشت مع شخصياتها عن قرب، وزارتهم في بيوتهم والتقت بهم في أماكن عملهم، كما تألمت وبكت مع أقاربهم.
في قصة (إسماعيل) الشاب الوسيم الذي كان يُبالغ في نظافته شكلاً ومضمونًا، والمثقف، والشجاع، والناشط عبر الإنترنت، اعتقله الأمن وأعادوه إلى والده جثة هامدة! وحين التقت الكاتبة بالأب المفجوع، أخبرها أن إسماعيل مات تحت التعذيب وحين غسلوه لاحظوا فجوة كبيرة في خاصرته ودمًا متخثرًا في أنفه وأذنيه وفمه وكانت عظام ساقيه مكسورة. لقد أُجبر الأب على توقيع أوراق تُثبت أن ابنه توفي بسبب سكتة قلبية.
أما قصة (هبة)، فتستعرض الكاتبة فيها صوتًا جديدًا يُنادي بالعدل والكرامة والحرية، صوت لم يشعر باليأس رغم كل المصائب.
(هبة) هي شقيقة إسماعيل البطل السابق، أم لطفلين ستربيهما على حياة العز والكرامة، وستحكي لهما بفخر عن خالهما شهيد التعذيب.
وأما قصة البطل (إياد) فهي كما تقول الكاتبة: “يسكن إياد في جنات الخلد، هذا ما تؤكده النسوة لأمه المفجوعة بموته.”
وفي تفاصيل القصة تسأل أم إياد وهي في موجة حزنها الطاغي: “لو أنه كان يحارب الصهاينة لقلت إنه شهيد، لكنه قتل هنا في وطنه، من قتله؟! استشهد مقابل ماذا؟!”
أسئلة مفتوحة تثير الوجع وتترك الجواب معلقًا في فضاء يزداد دموية وعذابًا يومًا بعد يوم.
وفي قصة (رُلا) يتضاعف الوجع ليصبح وجعين في امرأة واحدة، فالسيدة رلا امرأة على أعتاب الخمسين، زوجة وأم وجدة لطفلة عمرها شهرين.
تريد رلا إسقاط زوجها كما تريد إسقاط النظام! وتسأل نفسها: “ما الفرق بين النظام وزوجها؟ أليس زوجها أحد أركان النظام؟ أليس واحدًا من أهم ضباط الأمن في البلد؟”
مرت رلا بأيام من الانهيار والبكاء والإحساس بفقدان الذات، وفي يوم أسود يأتي الزوج الضابط مدعومًا بالأطباء النفسيين ليعطوها دواء يحولها إلى خرقة، تجف دموعها ثم تحاصرها عيون أولادها المتوسلة أن تعود كما كانت الأم المبتسمة، ولكنها لا يمكن أن تعود كما كانت بعد أن استيقظت في داخلها جمرة الكرامة التي وأدها الزوج، كما استيقظ عقلها المكبل بالخوف، حيث اكتشفت أنه لا يمكن لأحد امتلاكها إن لم تسمح له بذلك ، لقد تحررت رلا من خوفها وصرخت كما يصرخ كل الشرفاء بكلمة الحق.
قصة إسماعيل وهبة وإياد ورلا، تظهر جانبًا بطوليًا واضحًا، ولكن هناك قصص أخرى في الكتاب تثير جدلاً وتحفر بعيدًا في أعماق إنسانيتنا ومشاعرنا.
ففي حي بابا عمرو الحمصي مات والد (حسام) أثناء مشاركته في القتال إلى جانب جيش النظام، وفي اليوم نفسه وصل نبأ وفاة والد (مجد) مع إشاعة قوية أنه كان في بابا عمرو أيضًا وأنه من عناصر الجيش الحر.
لم يعد بمقدور الصديقين القديمين، حسام ومجد، أن ينظرا في عيون بعضهما، فقد يكون والد الأول اشتبك مع والد الثاني وقتل أحدهما الآخر.
كما تعاني (أم كفاح) صراعًا مريرًا وألمًا تعيشه الأم في غياب ابنها الذي التحق بالجيش السوري ليقاتل العصابات الإرهابية، صراع ينتج أسئلة سوداء مؤلمة من قبيل: ألا يحق للإنسان أن يكون جبانا؟ ألا يحق للشاب أن يرفض حمل السلاح ويختبأ في بيته متجنبًا لمشاعر الذنب بعد قتل أحد ما؟!
(وجوه من سورية) وجوه تحفر بملامحها صراع الحرب السورية بكل تحدياتها وأوجاعها، وجوه تمردت على الطغاة والفاسدين، فبعد كل هذا القتل اليومي والدمار المروع في سورية، لم يعد الخوف يخيفنا، بل بات كل سوري يشعر أن العين يمكنها أن تقاوم المخرز! صار الصمت مخيفًا أكثر، وصوت الحق صار أعلى من صوت الرصاص والقنابل والبراميل المتفجرة والصواريخ بكل أنواعها.