دعاء علي
لم تكن أغنية عبد الحليم حافظ ” صورة صورة كلنا كدا عايزين صورة ” إلا تجسيدا لمرحلة سياسية، لها ما لها وعليها ما عليها، فصورته التي طالب بها حينذاك كانت لإظهار دور أفراد الشعب المشترك في بناء وطنه كلٌّ في مجاله، العامل والمعلم والجندي والمهندس. رغم أنَّها كانت هي ذاتها إحدى أدوات الحكم العسكري في مصر لإخفاء عموم الشعب تحت صورة العسكر، وفوق الكل صورة “الزعيم”.
اليوم تعددت وظائف الصورة بما لا يمكن تصوره، والأسوأ أنَّها أصبحت تنتهج سياسة “اللقطة”، وسأورد بعض اللقطات غير الموفقة التي شاهدتها:
- المنظمات الإغاثية تصور الأفراد وهم يتلقون معونة الإعاشة، فيظهرونهم فيها كمتسولين أمام المنعمين.
- في المدارس يصور التلميذ عند حصوله على حقيبته وكتبه وما وصل من المتبرعين.
- إحدى المنظمات الداعمة للتعليم أحضرت الهدايا بعد انتهاء توزيع الجلاءات ولم يتبق من المتفوقين أحد، ولأجل “اللقطة” أعطيت الهدايا لمن تبقى من تلاميذ لتصويرهم وهم يستلمون هداياهم على أنَّهم التلاميذ المتفوقون.
- دخلت معلمة إلى الصف ومعها ألوان مائية، وطلبت من التلاميذ التلوين لبضع دقائق، ثم استعادت أدوات الرسم بعد أخذ اللقطة المطلوبة، بحجة أنَّ ذلك بطلب من الداعم!
- القصف والدمار والنساء التي تخرج من تحت الأنقاض تصور أيضا دون أي اعتبار واحترام للنفس البشرية، وخاصة عند انتشال الجثث من تحت الأنقاض، والمؤلم أكثر تصوير الأشلاء وما تترك هذه الصور من آثار كارثية على الجميع بصفة عامة وعلى الأطفال بصفة خاصة، ولا أحد يهتم لهذا الأمر مطلقا. فقط المطلوب منَّا كمصورين هو أخذ اللقطة وفق رغبة الداعم.
ولا يهم ما تسببه تلك اللقطات من الآلام لذوي أصحاب الصور لتسقطهم من ذاكرة جميلة متبقية وتحصرهم في ذاكرة مضغوطة منهكة شقية.
لمعرفة دور الإعلامي المصور في التوثيق، وتأثير هذه الصور على كبار السن والأطفال التقت حبر بالأستاذ أحمد حداد مسؤول الدعم النفسي في مؤسسة قبس التعليمية وكان التالي: “للإعلام دور مهم، وهو نقطة حساسة في كلِّ دولة، وممكن أن تصاب دولة ما بحرب نفسية أو تخسر حربا أو تنسحب جراء الإعلام.
والنبي عليه الصلاة والسلام ركَّز على هذا الأمر في أحد الأحاديث حيث قال: “نصرت بالرعب مسيرة شهر” فقد كان يعمل على هذا الأمر، وكان له عيون في كلِّ غزوة تجمع الأخبار، وكان المسلم يأخذ بهذه الأسباب عندما كنَّا أصحاب حضارة.
أمَّا الآن لم نعد كذلك، حتى أنَّ إعلامنا لديه ضعف، والتوثيق فيه أخطاء.
عندما تطلب الجهات الداعمة توثيقا علينا أن نقدمه بشكل مهني ولائق وصادق كي نفرض صورتنا كما ينبغي ونرتضيه، وإن طلب الداعم ما يسيء لنا، ويظهرنا أننا يد سفلى نرفضه مهما كان مغريا؛ لأنَّ هناك منظومة قيمية، وثورتنا كانت لأجل الكرامة، وكان أحد شعاراتنا (الشعب السوري ما بينذل)، فهل يكون التوثيق معاكسا لذلك؟!”
وعن آثار المشاهد المروعة وتصويرها تابع الأستاذ أحمد قوله: “المشاهد المروعة مصيبة المصائب، فعلم النفس يقول: تزداد الأزمة كلما ازدادت شدة التعرض لها، فربما تكون متعرض للحدث أو مشاهد له، وعلى سبيل المثال مجزرة الغوطة عُرضت بشكل مروع من خلال عرض الضحايا جثة جثة، فكان الألم كبيرا ولا ينسى، وكثير من الإعلاميين لم يستطيعوا الاستمرار في عملهم لشدة الضغوط التي ألمت بهم والاحتراق النفسي الذي أصابهم.
الإعلامي الذي يصور من أجل التوثيق لفضح النظام، فأي توثيق بعد خمس سنوات؟! ولكن نقول له: ابتعد عن المناظر المؤلمة، ففي بيوتنا أطفال ونساء وشيوخ ممكن أن يصاب بعضهم بجلطات وأمراض نفسية وكآبة مزمنة.”
بعض شاشات التلفزة تقدر هذا الأمر ولا تعرض الصور المروعة، لكن ما زاد الأمر سوءا أنَّ وسائل التواصل تعرض الحدث دون مراقبة وبكامل تفاصيله المؤذية والمرعبة، وهناك بعض الفصائل تعرض عملية ذبح كاملة!! ما جعل الأمر نقطة خلاف نحن في غنى عنها، فلا كل ما يعمل يصور، ولا كل ما يقال يكتب، نحن في أوقات حرجة ومؤلمة لا نريد إضافة آلام جديدة.