أنس إبراهيم
لا شيء يطغى على فترة الملك الجبري التي عاصرناها وأكلنا من زقّومها ردحاً من الزمن أكثر من علماء السلطان، فهم سدُّ رئيس الدولة المنيع، وحصنه الحصين، إذ إنَّ دأبهم هو إسباغ الشرعية لحكمهم، وإضفاء صفة الولاية المطلقة لهم على الناس، ذاك الذي يعطي بموجبه الحقّ له بقهر الناس وجبرهم على ما لا يريدون، وما عليهم سوى الطاعة والانحناء وإلا فإنّه يعتبر خروجاً على الحاكم، وتعاقب عليه أنظمة الملك القسرية.
ولا أدلّ على ذلك من مفتي الجمهورية العربية السورية أحمد حسون، الذي غيّب عقول جمهرة كبيرة من المجتمع عن الحقيقة إبّان شهرته ومن ثم تسلّمه مقاليد الإفتاء في الدولة.
ومن يمعن النظر ملياً يرى أنَّ له الدور الأكبر في تثبيت أركان النظام النصيري المتهاوي بتشريع مجازره، واجتذاب عوام أهل السنة وشعوائهم واصطفافهم إلى جانبه، لمجرد بضع كلمات ينفثها في أدمغتهم المسطّحة.
ولذلك تُعتبر قيام الثورة السورية منذ الخامس عشر من آذار لعام 2011 م بمنزلة صمّام الأمان للنظام العلوي الذي انتزعه أطفال درعا؛ إذ إنّ جملة من الإرهاصات الفكرية التي كانت تناهض النظام البعثي النصيري قد سبقتها، ومرت طوال عقود من الزمن مرحلة مخاض عسيرة إلى أن أذنت الثورة بولادتها.
ولا شكّ أنَّ ذلك فتح باب الأمل على مصراعيه أمام شباب الأمة الواعي، ومنّى نفوسهم بإسقاط كل الطواغيت ومشرعنيهم، حيث جابه العلويون بنظامهم الحاكم صدور المعلنين عن انتفاضتهم من أهل السنة بالرصاص الحي، ممّا حدا بمسار الثورة إلى التسليح والاقتتال بينه وبين الثوار ضمن مناطق متفرقة وأفرادٍ ومجموعات صغيرة، إلى أن تمَّ تنظيم الفصائل والكتائب ضمن مجموعات منفصلة في مختلف المناطق.
وكان من مستلزمات تشكيل تلك الفصائل هم علماء الشريعة، باعتبارها وليدة حديثة، ولا تستطيع أن تشرئبّ برأسها دونهم بين حاضنة شعبية صدحت بتحكيم الشريعة في البلاد لا غير.
حيث انبرى ثلة من طلاب العلم الشرعي ممّن لم يكملوا تعليمهم إلى استلام تلك المناصب الفخرية، وانضووا تحت جناحهم، وتحمّلوا أعباء ما تحمله الرياح المعادية للثورة من عواصف لتقوّض بنيان الأمة الذي بدأ ينهض.
أذاقت وقتها تلك الفصائل جيش النظام الويلات، وجرعته أمرّ الهزائم، إلى أن دخلت غرف الموك والموم على الخط العسكري في بدايات عام 2014 م برئاسة الأمم المتحدة ومخابرات الدول الإقليمية والأوربية، مهمتها التحكّم بالحراك العسكري على الأرض، لكي يفرضوا حالة توازن بين الثوار والنظام من حيث السيطرة وتخفيف الانتصارات لدفع الثوار باتجاه الحل السياسي الذي يرسمه الغرب لنا.
والغريب بالأمر أنَّهم لم ينهجوا نهج العلماء الربانيين في السعي لإسقاط كل المراتب الفخرية، والتخلي عنها، منهم ابتداءً، وحمل قاداتهم على ذلك نهايةً، كما فعل شيخ الإسلام العز بن عبد السلام مع الملك “الصالح إسماعيل” الذي ولّاه خطابة الجامع الأموي، حينما قام الملك بالتحالف مع أعداء المسلمين، فأنكر عليه ذلك من فوره فسجنه الملك.
وبعد خروجه من السجن وصل الشيخ إلى القاهرة، واستقبله سلطان مصر “الصالح أيوب”، وعينه في منصب قاضى القضاة.
وفي أثناء عمله اكتشف أنَّ الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك؛ ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار؛ فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنَّهم من العبيد.
وهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أنَّ كلامه لا يُسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مفتي، وهو يعلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ سائله.
وعند قراره بالرحيل رضخ الأمراء لفتواه، وباعهم ليعتقهم الذي اشتراهم ليتولوا مناصبهم وهم أحرار.
لم يقف هؤلاء العلماء الذين برزوا في ساحات الثورة موقفاً حاسماً من ارتباط الفصائل عبر قاداتها بالمخابرات الدولية، الذين أصبحوا عبيداً عندهم بعد أن كانوا أحراراً، بل لم يستطيعوا أن يقوا أنفسهم من نعيم تلك المزايا التي كانت وبالاً على المسلمين في إطالة أمد استباحة دمائهم.
لقد كانوا عوناً لأصحاب الأهواء على السير في طريق الظلمات، فزيّنوا لهم، وعمّوا على أبناء المسلمين المكلومين مفردات الحقائق، وسبل تحقيق أهدافهم.
وعليه فالثورة في انحدار جارفٍ وسريع إلى نفق مظلم ما لم يظهر بائعٌ جديدٌ للقادة والأمراء في عصرنا الحالي، وإعتاقهم من ربقة الدولار.