كحال كل الدعوات المشبوهة، لا بدَّ من أن يكون لها شعار برّاق يُخفي أهدافها الحقيقية، وأكثر دعوى تروّج اليوم هي دعوى التسليم للنظام المجرم وحلفائه، وشعار هذا التسليم “الواقعية السياسية”.
الواقعية السياسية كمفهوم مجرد أمر جميل وضروري، ويعني أن تفهم حجمك السياسي وفقًا لقوتك على الأرض، وتموضعك بخريطة التحالفات الدولية، وعلى هذا الأساس تقرر إستراتيجياتك اللازمة لتحقيق أهدافك.
أما اليوم فقد أصبحت واقعية البعض السياسية تُختَصر بالتفاوض على ثوابت الثورة، وأولها الاعتراف بالنظام وتسليمه المحرر، مع ممارسة الإرهاب الفكري ضد من يعارض هذه الخيانة، عبر اتهامه بالتهور والتطرف وضيق الأفق!
وأقول للواقعيين السياسيين إن الإنسان بمسيرته الطويلة اكتشف طرقًا ملتوية توصله لأهدافه تغنيه عن مداومة القتال والحرب وسفك الدماء، وهذه الطرق تعتمد على المراوغة واللف والدوران وعقد الاتفاقيات ومناصبة العداوات حسب خريطة المصالح، كنوع من التغيير الأقل خسائر لأسلوب الحرب لتحقيق المصالح، فالحرب والسياسة صنوان، يعملان معًا بالتبادل للوصول إلى الغاية نفسها، وبالتالي أي عملية سياسية لأي كيان لا تملك مسارًا عسكريًّا يحميها، ولا تمثل هذا الكيان وتحقق أهدافه المرسومة مسبقا تكون وبالاً عليه وخيانة لمبادئه، تمامًا كحال من يفاوض باسم الشعب السوري الثائر لتحقيق مكتسبات هي أساسًا ضد ثورة الشعب، فهل هذا يسمى واقعية سياسية أم واقعية خيانية، والواقعية السياسية تفرض عليك أن تقاتل بما تستطيع لتحقيق أفضل شروط للتفاوض السياسي.
أجد في نفسي سذاجة في مناقشة هكذا فكرة، لأنها من البدهيات الواضحات التي لا تحتاج برهانًا، لكننا صرنا نتيجة انتكاس الفطر السليمة، وسيطرة خطاب الهزيمة، نحتاج لأن نناقش البدهي، ونثبت صحة الصحيح أي عملية سياسية للثورة الآن، وهي بهذا الضعف العسكري والترهل هي انتحار، وكل ما يسمى ضمانات دولية، خاصة التي تأتي من طرف الحلفاء هي إبر تخدير، نحتاج لرص صفوفنا والقتال حتى آخر رمق، على الأقل لنحسن من شروط هزيمتنا،
قرأت مرة في أحد كتب الكاتب الأميركي روبرت جرين قصة عن اللورد ويلسن القائد البحري البريطاني الذي كان معروفًا بشجاعته وعبقريته، وتضحيته في سبيل وطنه، لكن القيادة البريطانية وضعته ثانيًا في القيادة، وأمّرت عليه رجلا يسمى ” هايد ” وأوكلت إليه مهمة إقناع الدانمارك بإقامة حظر بحري على فرنسا بقيادة نابليون، المهمة تبدو ديبلوماسية أكثر منها عسكرية، وتحتاج إلى واقعية سياسية أكثر منها لضغط عسكري وقتال.
جمع هايد الضباط ليشاورهم، فما كان من نيلسن إلا أن انفجر غاضبًا صائحًا إن الدفاعات الدانماركية مرعبة للأطفال فقط، وبإمكان البريطانيين إحراز نصر عسكري كبير إن قاتلوا، وفعلاً سقط هايد أسيرًا لاندفاع نيلسن وقرر دخول الحرب، لكن قراره كان نابعًا من نفسية مهزوزة مترددة، تعشق السلام والوداعة، وتخشى المغامرة والاندفاع.
بدأت المعركة وبدا فيها أن خسائر البريطانيين كبيرة، مما ولّد إزعاجًا وقلقًا لهايد، لأن حياته المهنية كقائد كانت على المحك، بعكس نيلسن الذي كان يعرف ما يجري ومدركًا لأبعاد الواقع.
وبعد 4 ساعات من المعركة أمر هايد برفع راية الانسحاب وهي الراية رقم 39، لكن نيلسن تجاهل الأمر كأنه لا يعنيه، وحين أخبره أحد الضباط بأمر راية الانسحاب تناول منه النظار، وكان نيلسن أعور، ثم وضعه على عينه العمياء وقال له ساخرًا أين هي؟ أنا لا أرى شيئا.
وبعد أقل من ساعة على رفع الراية رقم 39 تهاوت دفاعات الدانماركيين واستسلموا لينتصر البريطانيون لو صبر الدانماركيون قليلاً لانتصروا وسحقوا البريطانيين، ولو لم يتجاهل نيلسن أمر الانسحاب النابع من نفسية هايد المستسلمة والخائفة على منصبه، لما انتصر البريطانيون في حربهم وحققوا هدفهم.
واليوم من ينصحنا برمي السلاح والاستسلام للمصالحات الخيانية المذلة بذريعة الواقعية السياسية، ورفض التغيير الديموغرافي، والحفاظ على من تبقى، هو إما شخصية منهزمة مستسلمة تحتاج لمن يرميها في أواخر الصفوف، أو خائن يريد تخذيلنا عن تحقيق ما نستحقه من نصر.
لذلك لا سبيل لنا إلا أن نقاتل، فإما أن ننتصر، أو على الأقل نجعل نصر عدونا بطعم الهزيمة، ونحقق لأنفسنا شروط هزيمة أفضل.
يقول كارنيجي: ” كثير من الرجال الناضجين لا تقل مخاوفهم عن مخاوف الأطفال والصبيان “