صهيب طلال أنطكلي |
كان مساءً هادئًا من أوائل تشرين الأول/أكتوبر، ولم يكن البرد الشّديد قد حل ضيفًا علينا لكنَّه أوشك، كنت حينها على دراجتي النّارية أسير ببطء محاولاً اتقاء شدة الهواء ما استطعت، وإذا بطفل يلوح لي من يميني، أشعلت الضوء العالي محاولاً تلمس صورته، فرأيت يدًا طفولية تشير إليَّ أن أقف فوقفتُ وسألته: “عمو وين رايح؟ على الجمعية، طالعني معك؟”
لا يتجاوز عمره أربعة عشر عامًا أو أقل، وجهه بريء جدّا وجميل ومتسخ، عيناه زرقاوان، يداه صغيرتان قد غير التراب لونهما، يلبس حذاء كبيرًا على قدميه ومهترئًا، ويرتدي معطفًا واسعًا، تراه يرفع يديه باستمرار محاولاً إظهار كفَيه، بنطاله عذبتْه السنون على شكل رُقعٍ كثيرة فيه، وفي يده كيس أسود.
صعد خلفي، واقترب منّي كقطة تشعر بالبرد والجوعِ، سرْت في الليل لا نور إلّا ضوء درّاجتي الخافت والطّفل خلفي صامت، فقطعْت صمته بسؤال: “أنت ساكن بالجمعيّة عمو؟ لا، أنا نازح من خان طومان، بيتنا نزلت عليه قذائف من الجيش، وكلّ الريف دمّروا الطيران.”
قصد الطّفل ريف حلب الجنوبي الّذي اجتاحتْه قوّات النّظام وميليشياته بدعمٍ جويّ من طيرانِ المحتلّ الرّوسي، استخدمتْ فيه، كما في كلّ المناطق الّتي اجتاحَتْها، سياسة الأرض المحروقة، حتَى أصبح قَفرًا لا حياة فيه، ونزح الكثير من ساكنيه نحو ما تبقّى من أراضٍ محررّة.
قلتُ: “طيب … وين أهلك؟ أبي شهيد، وأمي وأختي عند بيت خالتي.”
شعرْت أنَ الطفل يتَقي الهواء البارد بِي، ويستجلب الحنان، ومَن أنا بالنسبةِ إليه؟!
كيف لطفلٍ مثله أن يبقى وحيدًا في هذا الليل البَهيم، يشير إلى أحدهم، الذي كان أنا في هذه المرة، ويصعد؟!
هذا النظام قتلَ وشرد العباد، ونثرهم في أنحاء البلاد، أفكار كثيرة تثير عقلي قطعتها بسؤال آخر: “شو عم تشتغل؟ بياع بسكويت. ومن إيمتى طلعت من البيت؟ من السابعة الصبح. شقد اربحت اليوم؟ ٤٥٠ ليرة.”
مبلغ زهيد جدًّا لعمل يوم طويل جدًّا وطفولة بائسة، يدور في الشّوارع ماشيًا، يلتقط كلَ واقف وماشٍ، كأنه يتوسّل إليهم أن اشتروا مني، بعضهم يشتري منه عطفًا، وبعضهم خجلًا، وقليل منهم لرغبته بتناولِ بسكويتِه الرّخيص.
لقد فقدتْ الكثير من العائلات الأب المعيل بسبب القصف الهمجي الذي لم يستثنِ منطقةً، إذ قدرتْ بعض الإحصائيات عدد الأيتام السوريين بـ 800 ألف طفل، 90% منهم غير مكفولين.
على مفرق الجمعية سألتُه: “بتعرف تقرأ وتكتب؟ يعني، مو كتير. رحت للمدرسة؟ إي رحت قبل ما تنقصف. لأيّ صفٍ درست؟ للصف الرابع وبعدها نزحنا.”
لا يبدو أنّ سؤالي عن التعليم قد أثار فضوله، لقد اختصر الطّفل كلَ المأساة في جوابه هذا، أربع سنواتٍ قضاها في المدرسة لم تمكنِّه إتقان القراءة والكتابة، فمصائب التَّعليم في المحّرر عظيمة؛ يتصدرها قصف وتهجير، ثمَّ تشرد يرافقه ضياع في الشّوارع، وهكذا نفقد الكثير من أبنائنا.
أشار تقرير صادر عن منظمة (يونيسيف) لعام 2016 أن حوالي ثلاثة ملايين طفل غادروا مقاعد الدراسة نتيجة تدمير مدارسهم أو هروبهم بسبب المعارك، وأن نصف الأطفال النازحين في مخيمات الداخل أو في دول الجوار لا يتلقون أيّ تعليم.
ينزل الطّفل ويقولُ: “الله يعطيك العافية يا عمو” يغيب عن عيوني شيئًا فشيئًا، وتغيبُ معهُ أفكاري وحسرَتي، ليقفز إلى ذهني أخيرًا أن هذا الطفل مثال لعدة مآس اجتمعت فيه سببها له النظام السوري الذي يتسابق الحكام العرب اليوم للتطبيع معه.