لطالما كان الطفل رمزاً راقياً للعفوية والتلقائية، وعالَماً قائِماً بذاته من الإحساس والنقاء، فالطفل يمتلك الفطرة السليمة التي يفتقدها البالغين.
في الثورة السورية اكتسب أطفالنا ميزة إضافية، فهم من أضاء شعلتها على جدران الحرية عندما دوَّنوا صرختهم التي زلزلت عرش الطاغية فجعلهم وقوداً لها عندما أذاقهم صنوف العذاب وتفنن بالانتقام منهم.
لكن المثير للاشمئزاز والغضب أن يتعرَّض الأطفال لاستغلال الطرف الآخر ممَّن يعارضون النظام الذين تفننوا في ذلك وأبدعوا، ويمكن تصنيف طرق استغلال الطفل في ثورتنا على النحو الآتي:
استغلال إعلامي: كان لا بدَّ للإعلاميين والناشطين نقل ما يجري على الأرض لإيصال صوت شعبنا المكلوم للعالم المتحضر ليكون شاهداً على جرائم النظام، لكنَّ بعض الانتهازيين الذين يعلمون مدى تعاطف المجتمعات العربية والغربية مع صورة الطفل الجريح الممزقة أوصاله، استغلوا هذا الجانب كلٌ من مكان إقامته، فجمعوا المال وبنوا الأمجاد على حساب آلام الأطفال ودمائهم.
وهو ما وصل بالبعض منهم لِأن يُكَوِّن هيئات وجمعيات للعناية بالطفل ودعمه ورعايته ويبالغ في التقاط الصور مع الأطفال في مخيمات وبلدان النزوح، وأحياناً مع أطفالٍ من ذويه ليوهم من لديه حس إنساني كم هوَ حريصٌ على مستقبل الأطفال ومشاعرهم، ليستقطب أكبر عدد من الداعمين وأكبر مبلغ ممكن، علما أنَّه لا يصل إلى الأطفال منه إلا الجزء اليسير والباقي تتكفل به حساباته البنكية.
استغلال ثقافي: لم يسلم أطفالنا حتى في تحصيلهم العلمي من الاستغلال الذي يمكن أن يكون الأبشع في هذا المجال، فجُلُّ المنظمات الدولية تضع ضمن أولوياتها التعليم لأنَّه الأكثر أهمية في تطور المجتمعات وتقدمها، وهو الوتر الذي عزف عليه بعض الجشعين المستغلين.
وهنا تكمن الكارثة عندما يكون الثمن مستقبل الوطن وأجياله التي ستبنيه لاحقاً، فمن أجل تحصيل دخلٍ يرضي تعطشهم للمال أَقدم بعض الأُميين في دول النزوح على استثمار أموالهم في المجال التعليمي، فأنشأوا بعض المدارس الخاصة بهم وبمن يلوذ بهم بعد أن حصَّنوا أنفسهم بشهادات اشتروها ببضع دولارات، واستقطبوا بعض المثقفين من ضعاف النفوس ليُشرعنوا لهم جريمتهم ويعينوهم على الاسترزاق من مدارسهم التي غدت مثلاً في التسيب والفساد، والضحيةُ مجدداً أطفالنا.
استغلال عسكري: هذا الباب تكاد تنفرد به بعض الفصائل التي صبت معظم تركيزها على الأطفال، وإنَّها وإن كانت مقبولة في تعليمهم العلم الشرعي وتنشئتهم على تعاليم الإسلام والسنة النبوية من خلال المعاهد الشرعية التي انتشرت في الداخل، إلا أنَّها كانت مفجعة عندما تمَّ تحويل هؤلاء الأطفال إلى العمل المسلح والزجّ بهم في المعارك وتجميعهم في المعسكرات.
استغلال أُسري: هذا النوع من الاستغلال نجد الدليل الصارخ عليه في شوارع دول الجوار التي نزح إليها السوريون خلال سنوات الثورة، حيث ينتشر الأطفال السوريون وبصور مختلفة على أبواب المساجد أو على إشارات المرور للتسول المباشر أو غير المباشر من خلال بيع المحارم والبسكويت كنوع من التسول المنمَّق، أو نجدهم قرب حاويات القمامة لجمع المخلفات من بلاستيك ومعادن لبيعها في سوق الخردة.
هذه الصورة القاتمة للطفولة خلّفها أهلٌ عابثون عديمو المسؤولية، همهم الجلوس في المنازل للاستجمام، منتظرين ما ستجود به عليهم طفولة أبنائهم الممزقة المنتهكة، وهنا تجدر الإشارة إلى أمر غاية في الخطورة، فهؤلاء الأطفال المشردون سيكونون وبالاً على مجتمعات دول الجوار وعلى السوريين الموجودين هناك أنفسهم، فالشارع لا يفرز إلا مجرماً أو مدمناً، وهذا ما يُنذر بعواقب وخيمة إذا ما لم يقُم كلٌّ بواجبه تجاه هذه الظاهرة، فضلاً عن أهالٍ زوجوا بفتياتهم القاصرات لبعض الأثرياء بحجة ضيق ذات اليد والستر عليها في واحدة من أبشع صور الاستغلال الأسري وانعدام المسؤولية والإحساس لدى الأهل.
ناهيك عن صورٍ أخرى من الاستغلال في سوق العمل ومن المهربين، يُضاف إلى هؤلاء تُجار الأعضاء البشرية الذين مَرقوا من الإنسانية كما يمرُقُ السهمُ من الرمية.
إذاً نحنُ أمام تحدٍّ خطير ومستقبلٍ قاتم ينتظرنا إذا ما خسرنا الطفل الذي هو الأساس الذي تبني عليه المجتمعات أملها وهو مقياس تطورها ودليل عافيتها.
هي صرخة في أُذنِ كلِّ من يستطيع إنقاذ الطفولة، من منظمات وهيئات وحتى أفراد كي يبادروا كلٌّ من موقعه لاحتواء أطفالنا وانتشالهم من مستنقع الضياع لوضعهم على الطريق الصحيح، وهي صفعة لكُلِّ من سولت له نفسه استغلال البراءة وزجها في جحيم جشعه وانتهازيته القذرة التي لا بدَّ سيحصدها يوماً ما في أطفاله جرَّاء ما اقترفته يداه.
2 تعليقات
Muhammed
كلام دهب والله بارك الله فيك وبامثالك
Talalshawar
وبكم بارك الله أخي الكريم