د. رغداء زيدان |
ملخص
الدستور نتاج العقد الاجتماعي الجامع في الدولة، وفلسفته تعكس قضايا الفترة التاريخية التي يُكتب فيها، وأيضًا تلك المتوقعة في المستقبل المنظور بالنسبة إلى واضعيه، وعليه من المفترض أن يكون الدستور مُلبيًا لحاجات الجماهير الحالية، ومُعبرًا عن تطلعاتهم المستقبلية. وفي سورية فإن قضايا الحريات وفصل السلطات وسيادة القانون وإصلاح مؤسسات الدولة هي القضايا الرئيسة التي اندلعت الثورة السورية لإقرارها والحصول عليها واقعًا في البلاد وليس فقط كنصوص دستورية. لكن مع ذلك لا تغيب مسألة هوية الدولة ولا المسألة الدينية عن أذهان السوريين، خاصة أنها تشكل أساسًا مهمًا في أي عقد اجتماعي أو سياسي بالنسبة إلى المجتمعات، فكيف إذا غلبت على المجتمع صفة التدين والمحافظة كما هو المجتمع السوري؟ بالتأكيد فإن هوية الدولة التي تشكل المسألة الدينية حيزًا مهمًا منها ستأخذ أهمية كبيرة جدًا عند السوريين على اختلاف أديانهم ومشاربهم وأفكارهم وأعراقهم.
وعند نقاش مسألة حضور الدين في الدستور السوري المأمول عبر الحديث عن دين الدولة أو رئيسها أو مصادر تشريعها، لا يمكن اختزال الموضوع ليبدو على أنه صراع بين طرفين: أحدهما إسلامي والآخر علماني أو ليبرالي يعمل كل منهما على الانتصار لرأيه ومحاولة تثبيته في مواد الدستور كما يفعل بعضهم، ذلك أن الموضوع أعمق من هذا الاختزال وأكثر تعقيدًا، ويصل إلى جذور المجتمع وتماسكه وسلمه وقوته التعاقدية من جهة، وتقبله للقوانين المستندة إلى ذلك الدستور والاعتراف بشرعيتها لتحديد مدى الالتزام بها من جهة أخرى.
كيف نرى الدستور؟
تختلف النظرة للدستور في بلد ما حسب الأهداف المراد منه تحقيقها. وفي سورية واعتمادًا على استعراضنا لبعض النماذج من الدساتير السورية وطريقة بنائها، نستنتج أن هذه الأهداف تختلف بين مرحلة وأخرى، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بواضعي الدستور وطريقة توافقهم على بنوده.
“لاستعراض البحث كاملاً يرجى الضغط على الرابط هنــــــــــــــــا …”
وقبل أن نختم يجب التركيز على النقاط التالية:
- بعد أن انتفض الشعب السوري مُطالبًا بالحرية والكرامة وسيادة القانون وإزاحة الاستبداد، ودفع ثمن هذا غاليًا ومايزال منذ تسع سنوات، لا يمكن تجاهل موقع الدين في أي دستور سيتم وضعه لسورية، رغم أن قضايا الحرية وفصل السلطات وسيادة القانون ستكون مطالب أساسية للسوريين في دستورهم الناظم لسورية الجديدة، وقد بينت بعض استطلاعات الرأي أن غالبية الشعب السوري يؤيد أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس أو أحد مصادر التشريع في الدستور، وكذلك كان رأي الأغلبية أن ينص الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام، فالرغبة المجتمعية لا يمكن تجاهلها، ولا القفز فوقها، ويجب مراعاتها، وتنظيمها بما يسمح بتحقيق أكبر قدر ممكن من الغايات المرجوة من الدستور، وحفظًا للسلام المجتمعي والتعاقد الاجتماعي.
- إن شوق السوريين إلى الحرية ودولة المواطنة قد يدفع بعضهم لمحاولة الدفع باتجاه رفض أي مادة في الدستور قد تشكل قيدًا على الحريات أو تؤثر على المواطنة، لكن يجب أن نستحضر دائمًا أن الدستور يؤطر العلاقة بين الحرية والسلطة، فلا السلطة تستطيع ممارسة دورها دون التدخل بشؤون المواطنين، ولا المواطنون يستطيعون تنظيم حياتهم دون وجود السلطة، ولا بد من تفعيل دور الرقابة لضمان حياد السلطة وموضوعية تدخلها بحياة المواطنين، مع إعطائها القدرة على تنظيم ممارسة الحريات بما يكفل عيش جميع السوريين مع بعضهم بسلام واستقرار.
- إن إقرار أي دستور ونفاذه معلق على موافقة الشعب، ولا يمكن الاكتفاء بتوافق أو اتفاق بين واضعي الدستور فقط، خاصة في الحالة السورية التي تعرَّض فيها السلم الأهلي لزلزال مُدمّر نتيجة الحرب، فعملية إعداد دستور تعاقدي يعكس مظاهر العقد الاجتماعي يتعهد به الشعب ابتداءً، وتكون الصياغة النهائية على مسودة الدستور التي أعدها الشعب مهمة اللجنة التي اختيرت لصياغة الدستور، فعبارة “المشاركة المجتمعية الفعلية” هي كلمة السر في نجاح هذه العملية برمتها، لذلك يجب تكثيف النقاشات التي تخص الدستور ومفاصله، لمعرفة توجهات الشعب السوري ومتطلباته وتوافقاته الحقيقة، بالتزامن مع نشر الوعي وشرح ما خفي من متعلقات الدستور ومسائله، وأودّ التركيز على أن الدستور لا يجب أن يتم تقديمه كمنحة للشعب دون مشاركة منه، والدستور في هذه الحالة قد يسمى دستورًا من حيث الشكل فقط؛ بمعنى أنه ينظم المسائل التي تنظمها الدساتير عادةً، لكنه لا يقدم ضمانًا للشعب في مواجهة السلطة، ولا يكون صالحًا لاستخلاص قوانين تنظم حياة الناس، ويقبلون الاحتكام لها وتنفيذها، ولذلك فإن الدول الاستبدادية يكون الناس فيها الأقل التزامًا بالقوانين.
- هناك سوء فهم للشريعة الإسلامية عند كثيرين، فهي تُختزل في الفقه الذي هو في حقيقته اجتهادات بشرية قابلة للتعديل حسب الزمان والمكان يمكن الرجوع إليها والاستئناس بها في إصدار قوانين الدولة، بينما يجب أن يهتدي التشريع الناظم للدولة بشعبها ومؤسساتها، بكليات الشريعة الإسلامية، التي تقدم رؤية أخلاقية قائمة على حفظ القيم العليا كالعدل والحرية والكرامة والرحمة والتعاون، كما تقدم مجموعة نظم حياتية تنعكس في المعاملات الاقتصادية والاجتماعية والنظام الأسري. وهي تقدم أيضًا قواعد أصولية تثبت الأولويات وتضبط الآليات التي يجب أن تعمل مؤسسات الدولة من خلالها؛ وعليه فإن جعل كليات الشريعة هي مصدر التشريع يقدم إمكانية واسعة من أجل تحقيق مقاصد الشريعة بحفظ المعتقد والنفس والمال والعقل والعرض، دون أن يكون للدولة حق التدخل في عبادات الناس، بل تسمح لهم بممارسة شعائرهم ولا تكرههم على اتباع دين أو مذهب لا يرغبونه.
- حسب وجهة نظري يمكن أن يكون لمؤسسات المجتمع المدني المتخصصة دور في قضايا الأحوال الشخصية بعيداً عن تدخل الدولة، وهو ما يجب أن ينص عليه الدستور، بحيث تتولى مؤسسات مدنية تخصصية معتمدة قضايا الحكم في الأحوال الشخصية، وذلك يسهل أمور الناس ويحفظ حقوقهم وحريتهم في الاحتكام لشرائعهم المعترف بها ضمن الدولة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى ما يخص تنظيم الأوقاف الإسلامية وإدارتها بما يحقق التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع، ويفسح مجالاً للعمل المدني للمشاركة في إدارة المجتمع، وفق قوانين دستورية تستشعر خصائص الشعب السوري وتنوعاته.
- ينبغي عدم الاعتقاد بأن كل إشارة إلى الدين تحول دون احترام حقوق الإنسان، فقد بيّن المختصون أن الإشارة إلى الإيمان بالله ودين الأغلبية في ديباجة الدستور لا تؤدي بحد ذاتها إلى آثار سلبية تنعكس على القوانين، إذا لم تكن هناك أحكام عملية أخرى تؤدي إلى التمييز في الحقوق أو الواجبات بين مواطني الدولة الواحدة. كما أن الأديان لا تتعارض مع حقوق الإنسان، بل إن تلك الحقوق مستمدة أصلاً من القيم الرسالية التي جاءت بها الأديان، والأديان عموماً داعمة لحقوق الإنسان.
لتحميل البحث كاملاً يرجى الضغط على صورة الغلاف