عندما يتشكل الوعي السياسي الشعبي، تنطلق عدة حوامل لرفعه وتوجيهه، يأتي في مقدمتها اللعب على وتري العاطفة والدين.
إنَّ أفضل السنفونيات وأكثرها تأثيراً على الإطلاق هي تلك التي يجيد مؤلفوها الدندنة بتركيز مرتفع على هذين الوترين وبتناغم شديد، فبينما تلعب الأحداث المأساوية والدموع وقصص البطولة والمثالية المفرطة الدور الأبرز في إشعال صوت الجماهير، يلعب الدينُ الدورَ الذي يشكل حامل الاستمرارية لهذا الصوت، فكل تلك التراجيديا والمأساة والصبر والتحمل والدموع والقصص المؤثرة، لها غايات تمتدُّ لما بعد الحياة لذلك الشيء النبيل الذي نعيش من أجله.
إنَّ أفضل السياسيين في ذاكرة الشعوب، هم أولئك الذين أجادوا الأمرين معاً، وقلة منهم من ركَّز على أمر واحد فقط واستطاع النجاح.
لا بدَّ من سلب الشعوب عاطفياً ودينياً في المقام الأول، ومن ثمَّ يمكن العمل على الاقتصاد والازدهار كممكنات إضافية، أو على القوة الخشنة كمرسخ للخطاب السياسي بقوة الخوف، عندما تشرخ الأسطوانة المعتادة، وتفقد السنفونية ألق تأثيرها لصالح سنفونيات أخرى أجادت اللعب على هذين الوترين بصورة أكثر حداثية ومواربة خادعة.
من المهم جداً معرفةُ أنَّ أي سياسي سيستخدم هذين الوترين لمصالحه بشكل فجٍّ مهما كان صادقاً، وأنَّ استخدامهما غيرُ متعين بطبيعة الإيمان بهما حقيقة أو لا، لأنَّه كسياسي يدرك أنَّ عليه فعل ذلك، فأعداؤه سيفعلون، والشعوب لن تفهم إلا هذه اللغة، لأنَّها بطبيعتها تحبُّ الاستماع لها مهما تطورت. وليس شرطاً أن يُتهم هذا السياسي بصدقه تجاه هذه الأمور، فقد أصبح من البديهيات استخدامها، والابتعاد عنها أمرٌ خاطئ، والتفاعل معها بالطريقة نفسها يبدو أنَّه سيبقى مستمراً.
إنَّ الغوغاء هي قوة الشعوب الحقيقية وليست الطبقة المثقفة، وقوة المثقفين تأتي بمدى مقدرتهم على التحكم بقوة الغوغاء الهائلة، وهنا لا بدَّ من ملاحظة أنَّ الغوغاء ليست لفظاً مشيناً، بل هي اللفظ الذي يعبر عن التحرك اللاوعي لدى الجماهير تجاه القضايا التي تؤمن بها بانجراف هائل، والتي لا يوقفها عادة إلا معزوفات مشابهة ترافقها القوة المفرطة.
الجماهير لا تواجه القوة المفرطة، هذه حقيقة يجب أن يعرفها الثائرون في كل مكان، إنَّها في أفضل حالاتها تكتفي بالصمود في مواجهة هذه القوة كنوع من الدعم للنخبة التي يؤمنون بها كأشخاص أو أفكار، والنخبة هنا هم من يتصدون للمواجهة، وليس شرط امتيازهم بصفات نخبوية، بل قد يكونون من النوع الشعبوي الفطري الخالص.
المدير العام | أحمد وديع العبسي