المشهد السابق (المتضمن لغة التعالي في الأهداف والمطالب دون النظر للممكنات) كان مشهداً طوباوياً كبيراً، لعبت فيه العاطفة والراديكالية الدينية غير الواعية التي استطاعت سحب حماس الجماهير المنخنقة دينياً دوراً أساسياً، مع عدم تجاهل وجود خطة محكمة قام بها النظام وحلفاؤه في سبيل ذلك.
وقد تكرر هذا المشهد مرات عديدة طيلة سبع سنوات، كانت دائماً تنتصر فيها لغة العاطفة والدين على لغة المصلحة والحل المحتمل، ومع كلِّ نصرٍ صغيرٍ كانت لغة التفاوض تخفت، وتتعالى لغة النصر والحسم الكامل، بأنَّنا سنهزم النظام ومن خلفه روسيا وإيران ومرتزقة العالم، بل وسنعيد رسمَ خريطة المنطقة بما يناسب الانتصارات التي حققناها، وكانت المثاليات والبطولات والدماء تفعل فعلها إلى جانب (المدبّر، والمخطط له) من أجل الانسياق نحو جحيم من نوعٍ خاصٍ، انخفضت فيه سقف الآمال والتوقعات كثيراً، لكنَّها في كلِّ مرة ترتفع إلى أقصى حلم مثالي ممكن لينخفض السقف تلقائياً في المرة التي تليها، وتزداد الخسارات والدماء، ويزداد معها الاستقطاب تجاه الثأر والأمانة وطلب المستحيل، في مشهد فطري يسهل التحكم به خارجياً وداخلياً (من قبل أصحاب الأهواء والخونة)، مع بقاء حالة الانفصال بين السياسي والميدان مرسخة جداً، وحالة التخوين لكلِّ شيء باتساع حتى للحلفاء أو للأصدقاء الذين لم يعد باستطاعتهم المضي نحو المجهول، واستكانوا للغة الحل بدل النصر.
لا أريد الإطالة هنا، فالمرور السريع لرصد تلقي الوعي الشعبي للخطاب السياسي الذي أحاط بالثورة هو هدف هذه السلسلة أكثر من كونها بحث أو دراسة تفصيلية.
بشيء من المباشرة طالت لغة التخوين الشعبي بشكل عارم حلفاء الثورة من الباقين معها أو المتخلّين عنها، بالأخص الخطوط الحمراء لتركيا ورئيسها، واتفاقية المدن الأربعة بالنسبة إلى قطر، الدولتين الأكثر انحيازاً للثورة.
تميَّز الخطاب التركي في بداية الثورة بمجاراة للخطاب الثوري ومثاليّاته، والتوعد بدعم الثورة بكلِّ الطرق الممكنة، والتعالي في طرح هذه الطرق لغاية التلويح المبكر بتدخل عسكري للوقوف إلى جانب الثوار، وإعلان تسليحهم وتقديم المعونة لهم.
لا شكَّ أنَّ الموقف التركي كان وقتها موقفاً عاطفياً دولياً، فهو ينسجم مع الخطاب الدولي، واتفاق العالم وأصدقاء الشعب السوري بشكل خاص (120 دولة) على ضرورة إسقاط نظام الأسد مهما كلف الأمر، والتدخل العسكري الدولي كان متاحاً كما جرى في ليبيا، وكان أيضاً منسجم مع قيم الحزب الحاكم في تركيا، وأرضيته الجماهيرية، لكن هذا الموقف تميز بالتراجع دائماً إلى حدود الممكن، ولم يدخل أي مغامرة كان يتحدث عنها هذا الخطاب. … يتبع
المدير العام | أحمد وديع العبسي