جاد الغيث |
البالونات الملونة تتأرجح مع نسمات الهواء الباردة، وفي الجانب الأيمن لساحة المدرسة تصطف الكراسي الصغيرة ملونة التي سيجلس عليها أطفال الروضة والصفوف الأولى، وفي الجانب الآخر سيجلس التلاميذ الأكبر عمرًا مع المعلمين والمعلمات وبعض الضيوف.
كانت الساعة العاشرة صباحًا، ووجوه الأطفال تفيض فرحًا في يوم بارد أشرقت فيه الشمس بعد غياب أيام، كما انسحب المطر الذي ظل يهطل ليومين متتاليين دون توقف، لكن الطائرات الحربية الروسية والأسدية لم تتوقف أمطارها وحممها فوق رؤوس المدنيين الأبرياء.
أصوات الأولاد تجعل المدرسة خلية حياة صغيرة تضج بالفرح، وفجأة علا صوت بكاء إحدى المعلمات، كانت صرخة تشق ستار السرور ولَّدت إشارات تعجب في عيون الجميع، بكاء في يوم الاحتفال وفي جو تسوده البهجة؟!
في سورية هذا ليس غريباً أبداً، فقبل دقائق قليلة نفذ الطيران الحربي الروسي ضربة موجعة على قرية (البارة) التابعة لجبل الزاوية، استشهد على الفور سبعة أشخاص، بينهم ثلاثة من عائلة الآنسة (عفراء)، أمها وأختها الصغرى وأخوها الشاب، كم يبدو مؤلمًا أن تفتح جوالك لتتفقد بعض الرسائل، وإذ بالخبر الصاعق يتركك رمادًا بين أنقاض الفرح!
ذلك ما جرى فعلاً مع الآنسة (عفراء)، وكجدار يريد أن ينقض غادرت المدرسة تائهة منكوبة، تنظر في كل الوجوه حولها مشوشة، مرة يبتسم لها وجه أمها الصافي في ملامح سيدة تعبر الطريق، وأخرى ترى وجه شاب كأنه أخاها يحمل كتبًا ووجهه ملطخ بالدماء، وهذه الفتاة تقف أمامها الآن تحمل وجه أختها المليء بالشظايا.
كانت (عفراء) قبل قليل ترسم على وجوه التلاميذ شوارب ملونة، وعلى وجوه التلميذات فراشات صغيرات، بينما كانت طائرة الموت ترسم خطوطها من السماء، وحين تم تحديد الهدف، رمت الطائرة حممها.
حين وصلت عفراء بيت أهلها برفقة زوجها، كان عليها أن ترسم بالألوان القاتمة لوحة كبيرة جداً بحجم ألمها وحزنها، ألوان اللوحة مزيج مرُّ لدموعها وصبرها.
أما غرفة الإدارة فقد انقسمت الآراء فيها، هل يستمر الحفل؟ أم يلغى؟؟
ماذا نقول للأطفال الذين انتظروا هذا اليوم طويلاً، ولبسوا من أجله أجمل الثياب؟ وماذا عن قالب الحلوى الكبير المزين بالورود الحمراء، والبالونات المتأرجحة والكراسي المصفوفة والفرحة الموعودة؟
وكان القرار في صف الحياة، وقبل العاشرة والنصف بقليل كان فراشات الصف الأول يغينَ على المنصة أغنية حروف الهجاء، ومن كلمات الأغنية (كل حرف من حروف الهجاء يدور) هكذا غنى الأطفال على مسرحهم الصغير وهم يدورون، والحياة تدور على مسرح الدنيا في سورية بين قصف ورعب ودماء وشهداء، وبين فرح وثبات وصبر وإصرار على البقاء.
كانت طائرة تصوير الحفل تحلق على مسافة قريبة من رؤوس الحاضرين، ودون أن تثير في قلوب التلاميذ خوفاً أو فزعًا، لقد رفعوا أيديهم ولوحوا لها بحب كبير، ربما لأول مرة منذ تسع سنوات يرون طائرة صغيرة تجلب لقلوب أصغر من عنقود العنب حبة واحدة فقط من الفرح، بينما تجلب الطائرات الحربية لأهل سورية دمارًا ودمًا وقهرًا بلا حدود.
لأول مرة وفي المكان نفسه أشرب في كأس واحد مزيجًا من عصير الحزن والفرح معًا، أي شعب هذا الذي يتمتع بكل تلك القوة والثبات، يودع شهداؤه في المقبرة ويتابع حفله في المدرسة؟!
انتهت الحفلة بفقرة الألوان باللغة التركية، كل فتاة تمثل لونًا يروي لنا مزاياه، ولكن اللون الأحمر كان غائباً عن منصة الحفل!! يكفي وجوده في كل بقاع الأرض السورية، في غرف المستشفيات وفي مواقع القصف وبين الأنقاض، فمايزال السوريون يحلمون بكل ألوان الحياة بعيدًا عن لون الدم.