عند وفاته عثر الأطباء على ورقة خطَّها قبل أن يأتيه الأجل على سريره، يقول فيها:
“رسالة إلى نفسك: لو بلغت هامتك عنان السماء سيكون الموت نهايتك، لو طفت الأرض شرقًا وغربًا سيكون السكون بدايتك، تستقبل في حياتك ضيوفًا كثر، لكن ضيفًا غير مرغوب فيه سيحل عليك، كل شيء سينتهي لتبدأ حياتك بعد الموت، هذا العالم سيموت لذلك كن مستقيمًا.”
نعم أيها الرئيس الراحل جسدًا، كأن كلماتك التي قلتها منذ 15 عامًا قُبيل رحيلك إلى عالم الخلود نعيشها اليوم، نعم لقد مات هذا العالم قبل أن يدكه خالقه، مات بأخلاقه في مجلسه الأممي مذ كان هذا المجلس شريكًا بحصار سراييفو، وأما الاستقامة التي عنيت بها كما أراد الله في كتابه فأهلها باتوا قليلين معذبين مفتونين.
البارحة حلت علينا الذكرى 15 لوفاة أول رئيس للبوسنة والهرسك علي عزت بيجوفيتش القائد المُفكر، وما دعاني اليوم للحديث عنه في ذكرى وفاته لا لسرد سيرة حياته وسرد كل مناقبه، إنما لتسليط الضوء على تجربته إبان الحرب التي خاضها وإسقاطها على التجربة السورية الحالية.
إن الحرب التي عاشتها البوسنة والهرسك خلدت رجالاتها وأبطالها الذين زادوا عن أرضهم كما يفعل السوريون اليوم، واختصرت بشخصية بيجوفيش، فرغم وصول القوات البوسنية المجاهدة إلى بودوي بالقرب من بانيالوكا عاصمة صرب البوسنة، والبدء بالمناوشات مع الصرب البوسنيين في عقر دارهم، اتخذ بيجوفيتش قرارًا مصيريًّا بالتوصل إلى اتفاق دايتون المعروف، لأنه كان مدركًا وقتها حجم المعركة والواقع الذي هو فيه.
بالمقابل فإن الثوار في سورية سنة 2013 كانوا في أوج قوتهم واتساع رقعتهم الجغرافية، فسيطروا وقتها على نسبة 70% من سورية بأسلحتهم وعتادهم القليل الذي لا يقارن مع العدو وقتها، إلا أن عدم قراءة الواقع من كل الزوايا دون نظرة استشرافية وقنص ما يثبت تلك المكتسبات بدد تلك المكتسبات، والرابط بين ما حدث في سورية وقتها وبالتحديد سنة 2013 وبين ما كان في البوسنة وجود تلك الشخصية التي حافظت على المكتسبات في وقت القوة، وذلك ما كان إلا بمعرفة الواقع وقياس الإنجازات وبناء القرار المصيري الذي تحمله وقتها بيجوفيتش، فهل كان قراره خيانة لدماء الشهداء البوسنيين فضلاً خاصة أنه في أوج انتصاره؟ ماذا لو أن مثال ما فعله بيجوفيتش حصل على أرض سورية وقت بلوغ الثوار ذروة تقدمهم؟! فلنتأمل!
لقد كان بيجوفيش مُدركًا وقتها لقدرة جيشه في المُواجهة، ومُدركًا لتخاذل كل من حوله ومتفهمًا للعبة الدولية، بل أدرك وقتها أن ما حصل من تقدم للمسلمين على أرض البوسنة كان تسخيرًا من الله وفق سنة التدافع، فاستقرأ بحنكته السياسية ظروفه المحيطة من كل الجوانب، وتجاوز كل المنظرين أصحاب المشاريع الطوباوية ووقَّع اتفاقية دايتون للسلام التي نعتها بنفسه قائلاً: “إنه اتفاق سلام مُرّ” لكنه انتزع بموجبه اعتراف العالم بكيان مسلم سني وسط أوربا في البلقان.
علي عزت بيجوفيش يعد رجل الحرية في البلقان ورجل المسؤولية في زمانه، إذ أدرك أن المعركة جولات فأنهى الجولة وجيشه قوي، في حين كانت الفصائل على أرض سورية تعيش نشوة الانتصار واليوتوبيا بانتزاع كل سورية بجولة واحدة دون إدراك للمكنات.
الآن وفي وضعنا الحالي نحن أمام مكاسب منتزعة بالسلاح ودماء الشهداء، فلنحافظ عليها ونرسم الحلول السياسية المستوحاة من المطالب الثورية والواقع، وليجتمع كل السوريين لوضع المشروع الذي طال انتظاره، فكلما تأخرنا تبددت الجهود وضاعت التضحيات، فالراحل علي عزت بيجوفيتش كان رجل الحرية والمسؤولية بآن معًا.