جاد الغيث |
(في وقتنا هذا يموت من لا يستحق الموت، ليحيا من لا يستحق الحياة) هذا ما قاله لي صديقي أبو البراء متحسرًا على الحال التي آلت إليها حلب الشرقية في أيامها الأخيرة، لكني خالفته الرأي معللاً أن الله يدبر أمورنا بحكمته ورحمته.
كنا نسير في الحقل الأخضر الوحيد المحاصر ما بين (حي بستان القصر، وحي الزبدية) وكان الملل والقهر والخوف من القادم قد دفعنا للخروج في نزهة وداع لحلب القديمة التي لم يبقَ منها سوى حي الكلاسة وباب قنسرين وباب المقام.
واختصارًا للطريق، دخلنا في قلب الحقل الأخضر، حيث كانت بعض النسوة يجمعنَ باقات السبانخ والسلق والبقدونس، وهذا كل ما يمكن بيعه من الخضار في زمن الحصار وبثمن يبدو خياليًا ثلاثة آلاف ليرة سورية لمجموعة أوراق خضراء كانت قيمتها قبل الحصار لا تتجاوز ثلاثمئة ليرة سورية.
مشينا بضع خطوات، وبدأت المروحية الحربية بالتحليق فوقنا وشاهدنا فجأة برميلاً متفجرًا يسقط بعيدًا أمام أعيننا ودخانًا كثيفًا أسود غيَّر لون السماء وكاد يحجب الشمس الدافئة ليغدو البرد شديدًا قاتلاً.
إنه برد الحزن والهلع، وعادت أقدامنا تخطو ببطء بعد أن تسمَّرنا في مكاننا لدقيقتين أو أكثر، صمت كلانا متوقعين ما يجري في مكان سقوط البرميل من وجود غبار ودمار دماء وأشلاء.
وتابعنا المسير متجهين إلى باب قنسرين، كان الباب شامخًا ومهيبًا ونحن ننظر إليه من أقرب نقطة وصلنا إليها، وكان الباب بدوره ينظر حزينا وتكاد حجارته تقطر دمًا وهو يرى أمامه المقبرة التي امتلأت بأجساد الأبرياء، وهي أيضًا لم تسلم من القصف، فسورها وبعض قبورها قد تهدمت بفعل الشظايا التي تتطاير في كل اتجاه.
في تلك اللحظة بدأ قناص القلعة باستهداف العابرين، سقط رجل أمامنا كانت إصابته في فخذه وراح يزحف بصعوبة للطرف الآخر الأكثر أمنًا.
سال دمه دون أن يتمكن أحد من مساعدته، فطلقات القناص لم تتوقف لحظة والجميع كانوا عاجزين مقهورين.
عدنا أدراجنا دون أن ندخل حلب القديمة عبر بوابتها العظيمة (باب قنسرين)، ودون أن نعلم أن في الأيام القليلة القادمة ستغدو حلب الشرقية كلها ليست لنا.
وبرغم القصف العنيف حولنا ورائحة الدماء ويئس النفوس، تسللت ذرات من الأمل لقلوبنا الميتة سريريا لكنها ماتزال تنبض، ومن شدة القهر غنيت لصديقي أغنية (فات المِعاد) لأم كلثوم، يبدو أن اللاشعور يقودنا لاختيار كلماتنا وأغانينا وفقًا لما يناسب حالنا وواقعنا.
نعم، لقد فات المِعاد حقًا ولم يعد هناك أحلام تُبنى في حلب الشرقية، كل ما تبقى هنا دماء تسيل دون أن تجف، وقبور شهداء ما تزال أجسادهم غضة ندية، وعالقين بين الأنقاض لم يخرجوا بعد.
لكن لم تمضِ بضعة أيام إلا ولاحت الأحياء المتبقية من حلب الشرقية بالسقوط، وصار لزامًا على الجميع المغادرة إلى الأحياء الغربية (الواقعة غرب نهر قويق) وفي خضم تلك اللحظات أذكر قصة مؤلمة (لأم أمير) ففي اليوم الأخير من سقوط آخر الأحياء الشرقية كانت الساعة الثالثة والنصف بعد العصر وبعد ساعة يؤذن المغرب ولذلك ينبغي لعمير وأصدقائه المغادرة، لم أكن وقتها مع عمير لكنني عرفت منه بالتفصيل ذكرى موجعة عن ذلك اليوم الأخير، كانت حادثة مؤلمة جعلتنا نبكي معًا وهو يروي لي التفاصيل، يقول عمير راويًا: “غادر جميع السكان حي الكلاسة وصار المشهد مرعبًا وحزينًا، بعض أبواب البيوت مفتوحة والنوافذ معظمها محطم بفعل القصف، والشوارع خالية حتى من القطط العابرة، وقريبًا من البناء الذي كنت فيه مرابطًا مع أصدقائي سمعت صوت استغاثة، أحدهم ينادي (يا شباب كرمال الله ساعدوني) ولكن هل من أحد هنا؟! بدا الصوت كأنه قادم من عالم آخر، لكنه حقيقي، كان صوت استغاثة لشاب لم يتجاوز العشرين يعرج على رجله اليمنى وجسده هزيل يرتجف ووجهه أصفر، يقول: (أمي مريضة ولا أقوى على حملها، وأخي غادرنا مع فصيله العسكري وتركنا لوحدنا)، كانت أم أمير في حال يرثى لها، وابنها العاجز الذي لا أعرف اسمه كان يبكي كالنساء، فهو لا يقوى على حمل أمه البدينة.”
يُكمل عُمير بحرقة: “حملنا أم أمير المنهكة إلى السيارة المتهالكة التي فقدت أبوابها ومحركها في الرمق الأخير لننقلها إلى مشفى القدس الوحيد، لم تستطع أم أمير البوح ولو بكلمة واحدة، كانت كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة كما هي حلب الشرقية تصعد منها روحها بعد أن هجرها أهلها مكرهين، وفي مشفى القدس كانت (أم أمير) آخر الوافدين وهناك للوجع حكاية أخرى، الجرحى من أصحاب الحالات الباردة كانوا ممددين على الأرض في الممر الطويل للمشفى، لا حول لهم ولا قوة، والبرد الشديد في تلك الأيام كافيًا ليقتل الأصحاء فما بالكم بالمرضى؟!”
وينهي عُمير قائلاً: “مع خروج أول دفعة للمهجرين التي خُصصت للجرحى، وضعوا (أم أمير) في سيارة الإسعاف مباشرة وانطلقت السيارة مع الغروب إلى المعبر وراح يصعد تباعًا إلى السيارات الخاصة بالمشفى الجرحى ومرافقوهم، بعضهم كان دون مرافق.” في تلك اللحظات كنتُ في المعبر الذي تم فتحه عقب الهدنة، حيث خُصصت الدفعات الأولى من الخروج للجرحى ومرافقيهم، ومن الجرحى من لم يكن له مرافق فعرفت الشاب (حسين) ذو الخامسة والعشرين الذي ذهبت زوجته مع ابنته إلى حلب الغربية حين اشتد القصف وصار الموت حتميًا على الجميع.
لم يكن أحد يصدق بأن اتفاقًا سيُبرم لخروج المدنيين، الكل كان يعتقد بأنه سيموت هنا في حلب الشرقية، فراح كل واحد من المحاصرين يرسم سيناريو خاصًا به للموت، ربما بسبب شظية صغيرة أو يسقط برميل متفجر فوق البيت فيدفن بين الأنقاض حيًا، أو يموت رميًا بالرصاص على يد قوات النظام وميليشياته.
كلها صور موجعة ووحشية، لكنها كانت ستغدو حقيقية لولا اتفاق تسليم حلب الشرقية، وفي كل الأحوال وإن كان أهل حلب الشرقية قد نجوا من موت محتم إلا أنهم لم يخرجوا أحياء، لقد ماتت قلوبهم وذكرياتهم الجميلة وأحلامهم أيضًا، لقد أطلق عليهم رصاص قاتل للروح بمجرد أن وطأت أقدامهم الدرجة الأولى من درجات الباصات الخضراء.
في فاجعة حلب كنت أشاهد انشغال الناس في الرحيل عنها وخوفهم من خرق الهدنة التي سمحت لهم أن يخرجوا سالمين، كانوا كخلية نحل تسعى مذعورة في كل اتجاه، الكل يريد الوصول إلى معبر النجاة، فالبؤس والخوف كان مرسومًا في تفاصيل الجميع حتى الصغار بدت وجوههم بائسة ومليئة بتجاعيد القهر والذعر، لكن سيرحل الجميع من هنا، ولن يبقى إلا الدمار وصدى الذكريات، وفعلاً لم تمضِ أيام إلا وسقطت حلب كلها وخرجنا أجسادًا بلا روح، وما زلنا نعيش على أمل أن نعود للحياة يوم نعود إلى حضنها، فهي أُمنا التي لا يعلو عليها أحد.