منذ أول يوم، وأول خطوة في هذا الطريق كنّا نعلم أننا لا نمتلك خيارات كثيرة، كانت الحياة قد فتحت أبوابها في طريقنا، فقررنا بملء أرادتنا أن نُوصد تلك الأبواب، لم تكن لتغرينا أبواب الأقفاص المزركشة، لم تكن رفاهية العيش والطعام بين قضبان العبودية المذلة لتثني أجنحتنا عن الطيران، كان للتحليق ثمن .. فالصيادون في كل مكان، والبنادق التي تشتهي النيل منّا مُشرعة دائماً، ولم يكن في الفضاء الشاسع الجميل ما على الأرض من فتات السادة الذي كنّا نسدُّ به رمق جوعنا، .. كان علينا أن نقاتل لنأكل بعزة وكرامة، أن نواجه البنادق، أن نهبط مراراً في مخاطرة جنونية من أجل أن ننعم بحريتنا المشتهاة.
تطاول الألم علينا، فاضت دماؤنا مراراً، تساقطت المدن التي نحبها واحدة تلو الأخرى، تيتمت صيحاتنا وأغنياتنا منذ ولادتها، وكلما زادت أعدادنا، زادت أعداد الصيادين أضعافاً، وزادت حصة الموت من أرواحنا وأجسادنا الغضة. وكلما أمسكنا يداً لنزداد بها قوة، هوت بنا إلى حيث المقصلة، كنّا نموت بالآلاف، بعشرات الآلاف، بمئات الآلاف، لكننا كالقَدر لم نكن لننتهِ، ولم تكن أجنحتنا لتستكين.
المعارك ستستمر .. والميدان لمن يثبت حتى النهاية، ونحن .. جميع من على هذه الأرض، رغم كل الخسارات المؤلمة حدّ الفجيعة، لم نُهزَم، مازالت العزائم في فورتها الأولى .. تشحذ بنار الثورة، ودَين الدماء، وأمانة الوصايا، وصوت الرسالة، وعشق الوطن.
على هذه الأرض لا خيارات جميلة، وأولئك الأبطال الذين قرروا القتال يعرفون جيداً أنهم لا يراهنون سوى على عزيمتهم التي شدّهم الله بها وخلقهم من جبالها الراسخة.
جباههم لم تألف الذل على استطالة العذاب، وقلوبهم قد تجذرت فيها الرسالة التي يعيشون لأجلها، فلم يقدر الموت على سلبها مهما تعاظم في طريقهم، يعلمون جيداً أنهم يقاتلون ويكافحون اليوم في آخر أرض لهم، تخلى عنهم الجميع، وأُوصدِت كل أبواب الأرض من حولهم، ولم يعد أمامهم إلا الاستسلام أو المواصلة حتى يقضي الله أمره، وقد وثقوا بالله وأمره، وقرروا الصمود في سبيل ما يؤمنون به.
لا دار أخرى يرحلون إليها لا أعشاش تأويهم، ولا أرض تغري أجنحتهم بالسكون، إن التحليق في سماء الحرية غريزة الأجنحة، وإلا لماذا خلقنا الله على هذه الهيئة؟!
المدير العام | أحمد وديع العبسي