جاد الغيث |
فراشان إسفنجيان وكرسي بلاستيكي أبيض فقد أحد قوائمه، ونافذة مطلة على بيوت متراكبة فوق بعضها البعض، يتدلى منها عناقيد طويلة من الفلفل الأحمر.
إنَّه بيت أبي اليسر في مدينة سلقين، لعلَّه البيت الرابع أو الخامس الذي ينتقل إليه نازحاً منذ بداية الثورة السورية.
(زين) الذي لم يكمل العامين يمنح العائلة الصغيرة بهجة لا مثيل لها، فهو طفل هادئ بريء تفيض ملامحه بالحب، لديه لعبتان من فرو ناعم وسيارة حمراء، ويتكلم بحروف منغمة لا يفهمها أحد غيره.
من التاسعة صباحاً وحتى السابعة مساء يعلو صوت أبي اليسر وينخفض وهو يعلم القرآن الكريم لتلاميذه في جامعين يتطلب الوصول إليهما صعود ما يقارب مئة درجة! كأنَّه يتحدى الصعاب، فيصعد إلى الأعلى دائماً على الرغم من وجود حبال غليظة تجره إلى قاع اليأس حين يقارن حياته بحياة آخرين في أي مكان آخر من العالم.
لكنَّها فرصة ذهبية أن يجد أبو اليسر عملاً يحبه بأجر يغطي مصاريفه اليومية لا أكثر، فلا شيء يمكن ادخاره هنا سوى العمل الصالح.
النازحون من حلب الشرقية والرقة وحمص ودير الزور والزبداني كلهم يبحثون عن فرص عمل، فازدحمت شوارع المدينة الصغيرة المعلقة بين السهل والجبل بالباحثين عن لقمة عيش كريم قد لا يصفو لهم.
سلقين مدينة حدودية مع تركية لم يكن لها شأن كبير قبل الثورة، لكنَّها اليوم مهوى الأفئدة نظراً للأمان النسبي الذي يسودها، فالمدن الحدودية تسلَم عادة من قصف الطيران الحربي الروسي وغيره.
لم تذق يوماً طعم الدمار الذي يحدثه برميل متفجر إلا مرة في كل ثلاثة أو خمسة شهور، وفي المرة الأخيرة قصف الطيران الحربي جامع الروضة، فتحول المكان المحيط به إلى ركام، ويومها ودعت سلقين أربعين شهيداً من أبنائها.
سلقين ليست مدينة إقامة هانئة للجميع، بل هي محطة عبور للدخول إلى الأراضي التركية عبر مهربين يقسمون أيماناً مغلظة بأنَّ العبور آمن ومضمون ولا يستغرق سوى ثلاث أو أربع ساعات سيراً على الأقدام ليس أكثر.
العبور إلى تركية حلما يقترب من المستحيل، والذين يملكون المال للعبور قد لا يملكون الصحة، أو قد يخافون من طلقات الرصاص التي تصوب نحو رؤوس العابرين.
يبقى الوطن الذي يحلم به الجميع نازفاً ممزقاً بين أنَّات المقيمين فيه وآهات المغتربين عنه! وقلق وخوف العابرين لحدوده مع تركية الجارة والصديقة التي أغلقت أبوابها!
حلم يراود أبو اليسر أيضا بالعبور إلى تركية، لكن هل يصل زين وأم زين بسلام إلى ضفة النعيم؟! قد يكون الجواب لا.
وما دام الجواب معلقا ويغلب عليه (لا) فسيبقى البيت المستأجَر دون أثاث، والمطبخ الصغير بلا ثلاجة، والصحون معدنية، والكؤوس بلاستيكية، وأسطوانة الغاز مستعارة من الجيران، والحمام بابه ستارة سوداء.
حياة مؤقتة يعيشها أبو اليسر في البيت الخامس الخالي من الأثاث الضروري، فما نفع السرير الفاخر إذا كان لا يجلب النوم؟ وما قيمة الطعام اللذيذ لمن لا يتذوق سوى الخوف؟ وما معنى الحياة بدون صوت (زين) الذي يضيف يوماً بعد آخر نغمة جديدة لحروفه العجيبة؟! يحاول طوال الوقت أن يمسك بضوء الشمس المنعكس على الجدار الأعزل في الغرفة الصماء.
ستكبر يا زين، وستغدو حياتك أكثر إشراقاً، فعتمة أيامنا هي زيت يوقد مصابيح أيامكم القادمة.
ولا بدَّ لليل أن ينجلي ولا بدَّ للقيد أن ينكسر