يطغى الواقع المرير في سورية على كل ما حوله، فتحسب للوهلة الأولى أن لا مكان للأدب وسط ساحة من الدماء، لكن القلم كان مرافقاً للسلاح منذ ولادة الثورة، وعمل على إيصال صوتها إلى العالم، ونقل الأحداث والأوجاع التي عاشها الشعب السوري من نزوح داخلي، ومكوث على أبواب اللجوء، ولعق لمرارة الغربة، وتدمير مدنٍ وتهجير سكانها، وأخيراً حلم هذا الشعب بالعودة إلى ما تبقى من الوطن ولو بعد حين.
برزت أقلام عديدة حملت القضية السورية على عاتقها، ووثقت بكتابتها قصصاً من الواقع عاشها أغلب السوريون، لتصبح مصدراً ومرجعاً لأبرز الأحداث التي حصلت وماتزال.
الكاتبة السورية الشابة نور الهلالي، قلم صاعد في عالم الكتابة والرواية، نسجت باكورة أعمالها الأدبية في رواية قصصية حملت اسم:” التغريبة السورية”.
الرواية سلسلة من القصص التي تربطها خيوط الغربة والمعاناة في ظل الحرب الجاثمة على قلوب السوريين، وفي كل حكاية تغريبة جديدة بنكهة مختلفة.
تطرقت الرواية إلى طرق اللجوء المتعددة التي سلكها السوريون هرباً من الموت في بلادهم، أملاً في الوصول إلى قليل من الحياة والأمان.
فمنهم من رسى به المطاف في مخيم طوى من حياته سبع سنين ولاتزال خيامه المهترئة تذكره كل صباح أنه لاجئ في وطن من قماش، هذه الحالة جسدتها شخصية ” أم حلا ” المرأة التي فقدت أختها في الحرب وهربت من حزنها لتجد نفسها في مخيم الزعتري ..
ومنهم من قطع البحار في قوارب الموت، في رحلةٍ مصيرها الغرق أكثر من النجاة، لكن الموت الذي طردهم في بلادهم كان أقسى من الموت الذي اختاروه في عرض البحر.
وفي كل شخصية تصادفك، ستجد نفسك تعرفها أو ربما عشت معاناتها، أو مرَّت في قاموس حياتك وتسقطها تلقائياً على واقع لايزال يعيش في الذاكرة.
كما تحدثت الرواية عن أطفال صغار لم يعرفوا من الدنيا سوى الهرم والبؤس، وُلدوا في زمن الحرب، وورثوا الألم من آبائهم، ثم تركوهم يمضغون مرارة اليتم، كلُّ ذلك في أقل من سبع سنين، فأي جيلٍ منهك قد أنجبنا؟!
تجلت هذه الصورة في شخصية “وطن” ذاك الجنين الذي وُلد من رحمٍ ميت وقد أسمته أمه وهو في أحشائها “وطن ” ليجد نفسه عند الولادة بلا أمٍ وبلا وطن!
رغم عتمة المشهد في كل حكاية كانت خيوط من نور تنسدل من نافذة الأمل وتمسك الحياة بيديها، فمايزال للحلم بقية ومانزال أحياء ..
لم تكن أغلب المناطق الجغرافية واضحة، وهذا لم ينقص الرواية شيء، لأن الأحداث متشابهة في كل المدن والسيناريوهات ذاتها والنهاية كذلك، فكل مدينة مرَّت بذات الألم وذاقت الوجع نفسه.
انطلقت الرواية كما الثورة من خربشات أطفال حوران على جدران مدرسة، كانت تلهو أناملهم بعبارات الحرية،َ ومن ثم دفعوا ثمنها من دمائهم ومن هنا بدأت القصة ..
وامتد تسونامي الحرب إلى اغلب المدن والبلدات المناهضة للحكم، لتقبع في حصار دامٍ مدة سبع سنوات، جعلت الكثير من الناس يختارون غربتهم بأنفسهم ويبذلون في سبيلها كل ما يملكون للخلاص من قهر الجوع والخوف.
“علاء وجمان” شخصيتان جسدتا الحب العفيف والتضحية، ووصل بهم الحال إلى الموت قنصاً برصاص غادر في مدينة علاء المحاصرة بعدما آثر البقاء فيها ومعاونة رفاقه، فلحقت به جمان وعادت من غربتها بعد عقد قرانهما عبر برامج المحادثة المرئية، لتقضي حياتها معه، لكن الموت كان أسرع منهما ..
نهاية لم تعد مستغربة لكثير من الحالات المشابهة لقصتهما طالما أن الحرب لم تنتهِ وتتلظى على أجساد الشعب ..
تمتعت الرواية بأسلوب واقعي قريب من القارئ في نقل الأحداث، وسرد متناسق تعيش في ثناياه وأنت تقرأ، والنهايات في أغلب القصص كانت مفتوحة.
إنها رواية هاربة من زمن الموت، تحمل بين سطورها حكايا الكثيرين وتحييهم على الورق بعدما دفنوا على قيد الحياة ..