غسان الجمعة |
بتماهٍ وبرود سياسي وعسكري، تتعامل موسكو على عكس التوقعات مع ما يدور بالقرب من خاصرتها الرخوة في منطقة جنوب القوقاز التي تتنوع فيها العرقيات والأديان وتجمعها حتمية الارتباط بالكرملين؛ لحسابات جيوسياسية وعسكرية تشكلت في حقبة الاتحاد السوفيتي.
فاجأت تركيا الجميع بدعمها لأذربيجان إن لم يكن أيضًا تحريضها لباكو لفتح معركة إقليم (قره باغ) الذي وصفه الرئيس التركي بأنه “حساب قد حان وقته” وقد سبقه الكثير من عقود الدعم العسكري والتدريبات المكثفة في السنوات الأخيرة بين باكو وأنقرة.
الملفت بالحرب المندلعة هو الضجيج الذي خلقته العسكرية الأذرية بموافقة تركية لبوتين الذي اعتاد على محيطه الهادئ وعلاقة ولائية لموسكو بالأنظمة الاستبدادية الخاضعة للمدرسة السوفيتية، فما الذي تريده أنقرة من القوقاز؟ ولماذا تنأى موسكو في ردِّها وتحركها مع المعطيات الجديدة؟
بعد رفد أنقرة قوتها الناعمة بذراعها العسكرية في الكثير من المناطق في الشرق الأوسط في ثورات الربيع العربي والتي تعدها، لأسباب تاريخية وإيدلوجية، الإرثَ المفقود من إمبراطورتيها العثمانية ولا سيما مع وجود رغبة غربية بالتراجع عن مشاكل الشرق الأوسط، والابتعاد عن أزماته الحادة التي لا تنتهي وانتهاج الولايات المتحدة سياسية التأثير الاقتصادي أكثر منه بالعسكري في مدِّ نفوذها وخدمة مصالحا، وجدت أنقرة نفسها تزاحم إيران و روسيا على سدِّ هذا الفراغ، بل كانت فرصها هي الأعلى مع وجود رغبة غربية بذلك لمواجهة المحور الروسي الإيراني في المنطقة.
إلا أن موسكو وإيران كانتا سباقتين إلى كل مكان تطؤه أقدام أنقرة أو تخطط فيه لبناء نفوذها في محيطها الجيوسياسي، وغالبًا ما كانت تنخرط في مفاوضات هي فيها الطرف المذعن لإملاءات روسيا وإيران.
كما أن بقاء أنقرة رهينة للعبة خطوط الطاقة ومنابعها إقليميًا ودوليًا وافتقارها لمخزون كبير منه، على عكس الدول الصاعدة إقليميًا لا يتناسب مع دورها في المنطقة وحجمها؛ لذلك كانت كلمة السر هي إقليم (قره باغ) في تعامل أنقرة مع الشوفينية الروسية والإيرانية في المنطقة.
أذربيجان الغنية بالنفط والغاز ذات العقيدة والانتماء القومي المطلق للأخوة مع تركيا (أمة واحدة في دولتين) هي الفاتحة التي تلاها أردوغان هذه المرة على التخوم الروسية وفي عقر ما تعدُّه حزامها الدفاعي الأول.
أذربيجان التي قرعت طبول حربها ضد أرمينيا هي ذلك الصدى الذي أرادت أنقرة إسماعه لطهران ذات النوايا الخبيثة في عرقلة المدِّ التركي في المنطقة، وامتحان رواج التفوق والولاء للعرق على حساب المذهب في لعبتها التوسعية، بل وتهديد مباشر لوحدة إيران من خلال إثارة السكان الأذريين في إيران، والتي باتت ورقة ضغط بيد أنقرة قد تتسع رقعتها في أي وقت مع تغيير الظروف.
أما روسيا التي لم تصطدم مع الاندفاع التركي لمنطقة القوقاز، باتت تدرك ميول أنقرة الخشنة ومدى قدراتها العسكرية المتطورة، كما أن البناء السياسي بين الطرفين بات أكبر من أرمينيا بحدّ ذاتها، لا سيما في سورية وليبيا، ولحسابات أخرى تراها موسكو ذات أهمية، منها الحفاظ على علاقات روسيَّة أذرية كون الأخيرة أحد معابر الطاقة خارج روسيا، وكونها دولة إسلامية تكسب تعاطف المسلمين في الاتحاد الروسي وخارجه.
بوتين الذي لم يخلق عداوات بينه وبين تركيا في دول بعيدة ليس مضطرًا لخلقها في جواره ولاسيما مع موجودة الاضطرابات التي تحدث حوله في قيرغيزستان وبيلاروسيا وأرمينيا، ووضعه الداخلي المشبوه عقب حادثة تسميم المعارض (نافالني) وحشود الناتو وتوسعه على الحدود الغربية لروسيا.
حسابات جديدة تدخل مراحل معقدة بفعل أطراف إقليمية ودولية قد تؤثر على مجريات الكثير من الملفات بين تنازل هنا وتسوية هناك وصفقة في مكان آخر، منها الأطراف السورية التي زُجَّ بها في أتون حرب في (قره باغ) حيث تتعارض ظروف الاصطفاف مع الأطراف المتصارعة هناك.