بقلم غسان دنوماجد: خريج جامعي مختص في الهندسة الميكانيكية، ينتابه في وظيفته دائماً شعور بالقرف من منصبه الوظيفي، فهو يشعر أنَّه مضطهد من قبل مرؤوسيه في العمل مع أنَّه جامعي وهم (سنتافيكا) أي ما يعادل الشهادة الإعدادية، وذلك لأنَّهم حزبيون فقط، ماجد وجد نفسه يخدم الدولة رغم مؤهلاته من لغات وخبرات في علوم الحياة، ولكن مجبر أخوك لا بطل، أمَّا أبو ماجد مؤمن بشدة بمقولة الوطن أولاً ماعدا عنصريته لحزب البعث فهو عنصر عامل.ماجد يتابع الأخبار بشراهة واهتمام منقطع النظير، فمنذ إحراق الشاب التونسي لنفسه وتتابع الأحداث في تونس تغيرت حياته وأصبح يجد متنفساً لأفكاره.ماهي إلا أشهر تمضي ولهيب الحراك الشعبي ينتقل من بلد لآخر، وسرعان ما تنطلق الشرارة في سوريا فتنتفض درعا وحمص، يكاد قلب ماجد يقفز فرحاً، ولكن لا يستطيع المشاركة، فدرعا بعيدة ووالده يفرض عليه قيوداً شديدة، ففي كل يوم محاضرات تخرج من فمه الحزبي يغذيها دمه البعثي الفكر.تبدأ المظاهرات في حلب، فيهرع مسرعا مشاركا فيها صادحا بصوته عاليا ملوحا بيده كأنهما جناحين يطير بهما كعصفور خرج لتوه من القفص، يرى سقوط نظام البعث قاب قوسين أو أدنى، وأخيراً يستيقظ في المعتقل معصوب العينين مكبل اليدين نازفاً دماً يتساءل أين أنا؟! إنَّها ذات الصرخات والأصوات من أصدقائه، الله أكبر … هي لله هي لله … لكنَّها خافته ضعيفة كأنَّها مكبلة بقيد، يطغى عليها صوت الكرباج وصوت رجل يألفه يزمجر ويرعد قائلاً: يا كلاب … يا خونة ….أبو ماجد بيده كرباج منتعلاً حذاءً عسكرياً يصرخ غاضباً (شحطولي هالكلب ابن الحرام لعندي أكيد أنت مانك ابني تفو عليك وعلى أمك يا خاين الوطن)ماجد: بحالة يرثى لها مستسلما لا لجلاده، بل للصدمة من كلام والده …- بعد سنة يخرج ماجد لا يكاد يقوى على السير، فقد رقَّ عوده وتشققت قدماه وضمرت عضلاته جوعاً وتعذيباً. خرج رغم أنف أبيه بصفقة تبادل أسرى، يستقر في معارة الأرتيق إحدى القرى المحررة في ريف حلب، سرعان ما يتعافى نفسياً أكثر من جسدياً، فبعض رفاقه في المظاهرات حالفهم الحظ ولم يعتقلوا، وهم اليوم قادة كتائب وتشكيلات صغيرة.يلتحق بمعسكر حربي بسيط، فيتقن حمل السلاح والجهاد به، ويبدأ يعدُّ نفسه لمعركه دخول حلب المدينة واضعاً نصب عينيه لمَّ الشمل بأمه وأبيه وإخوته.تشتعل حلب رصاصاً وقصفاً بحرب سريعة لم تتجاوز الأسبوع، يسيطر ماجد ورفاق السلاح على مساحات شاسعة وتقوى شوكتهم.شهور تمضي … جبهات تفتر… لا قتال ولا تحرير لشبر جديد، بحث ماجد كثيرا عن عائلته لكنه لم يجدهم، فبيته قصف وحارته فارغة، يعاوده الشعور باليأس لا لأنَّه لم يلتقِ بعائلته فحسب بل لمشهد التناحرات على السلطة بين الفصائل الصغيرة التي سرعان ما تنامت وكثر عدد مقاتليها، ومنهم من امتهن فن إفراغ البيوت بتهمة غدت نافذة (بيت شبيح) ومنهم يفرض الإتاوات على أصحاب المعامل بحجة دعم الثورة حتى هرب أصحابها.فوضى عارمة بعد التحرير، لا كهرباء ولا ماء وشوارع خواء، يمسك سلاحه يريد أن ينتحر ليرتاح مردداً في نفسه (فخار يكسر بعضه)أصبعه على الزناد، عيناه تفيضان دمعاً ودما، حزن ويأس يخيمان عليه، فقهر الرجال شعور لا يوصف.الله أكبر. الله أكبر. ينادي منادي صلاة الفجر، يترك السلاح ويستغفر ربه (يفكر بصمت).ماجد يصحو من رقاد عميق: الثورة ليست سلاحا وناراً فحسب، الثورة بحاجة إلى رجال أشداء على الكفار رحماء فيما بينهم، يقرر أن يدخل إلى مجال آخر عله يفيد المجتمع ويخفف وطأة العسكرة على الناس.يصرخ غضباً: أريد شيئاً يعيد الثورة إلى صوابها، فتخطر له فكرة الإعلام والصحافة، إنَّها السلطة الرابعة في كل مكان وزمان، إنَّها الطريق الأكثر جدوى لينقل واقع البلد للخارج ويفضح المتسلقين على الثورة في الداخل. يُودع سلاحه في دكان لبيع السلاح، يشتري كاميرا، ويدرس هذا المجال بقوة، فهو كعادته لا يعمل عملا لا علم له به.شهور تمضي، يذيع صيته ويهابه العسكر والمجتمع المدني، فقلمه حاد كالسيف، وكميرته تحط من قدر الظالم، وتعلي من قدر المظلوم.في إحدى الليالي يستلقي متعباً في فراشه بعد سهر ومرابطة لتوثيق عميلة سرقة للسيد ؟؟؟، ليستيقظ في قبو شبيه بأقبية النظام، يصحو على مشهد غريب لشباب يافع مكبلين بالأصفاد ونواح وبكاء، وإذا بصوت يألفه ينادي (شحطولي هالكلب أبن الحرام) وينهره ويضربه قائلا: أنا بريء منك يا أبن الحرام.فيطلق صراخه قائلاً: (ياللعار ياللعار شبيحة صاروا ثوار)