على أنقاض قريته كان ينقل خطواته المتأنية متأبطاً آلة التصوير لينقل إلى العالم حقيقة ما فعله النظام المجرم بقريته التي تحولت إلى مشهد من الجحيم بعدما كانت قطعة من جنة الله في الأرض.
بعد حلول الليل انطلق من القرية التي نزح إليها، يدفعه الإصرار على مشاهدة قريته وما جرى لها، غير مبالٍ بالأسلحة التي ترصد كل الدروب وتطلق نيرانها على كل ما يتحرك، غير مكترث بالموت الذي ينتظره من فوهات البنادق المتربصة، لقد سلك طريق الثورة منذ ست سنوات ولن يحيد عنه، سكان قريته الذين يفوق عددهم المائة ألف يتعرضون للقصف والتجويع، وعليه إطلاع العالم الخارجي على ما يجري فيها، وهو لا يملك من الأدوات سوى قلم وآلة تصوير، معظم رفاقه الذين يعمل معهم قد أصيبوا ومنهم استشهد، لكن ذلك لم يفل من عزمه على إكمال المسيرة.
توقف في نهاية القرية التي تحاذي قريته، قرر دخول آخر بناء فيها ليأخذ قسطاً من الراحة وليستفسر من المقيمين هناك عن الدروب الآمنة البعيدة عن مراصد القناصات الحرارية التي تعمل في الظلام، فوجئ بوجود صديقه (أبي علي) وقد أصيب إصابة خفيفة، كان الشباب يعدون وجبة العشاء المؤلفة من البرغل واللبن، شاركهم طعامهم، وكانت وجبة دسمة بالنسبة إليه بعد معاناة طويلة مع الجوع، إذ كان يفضل الابتعاد عن مائدة أهله، ليوفر حصته من الطعام للنساء والأطفال العاجزين عن تأمين الطعام في ظل هذا الحصار الخانق.
استأذن من الحاضرين بالانصراف، وطلب أبو علي من (أبي مراد) إرشاده إلى الطريق الجانبي للقرية، وأضاف أبو مراد: “هناك جريح يجب علينا إحضاره إلى هنا، لكنني أنتظر حضور مساعدين لي لنتعاون على المهمة، ليتك تنتظر بعض الوقت لتذهب معنا.”
بعد ساعة ونصف اجتمع الفريق، طلب منهم (أبو محمد)، الخبير بالمعارك، السير في رتل أحادي، يفصل بين الرجل والآخر سبعة من الأمتار، حتى إذا رصدتهم القناصة وأصابت شخصاً منهم ينجو بقية الفريق، اجتازوا الطريق الجانبي ضمن الأراضي الزراعية، ووصلوا إلى سكة القطار، ساروا بمحاذاتها بحذر ودقة حتى دخلوا قرية عين الفيجة، وهي قرية أبي محمد ومقصده، وصلوا إلى مكان مكشوف على ثكنات الحرس الجمهوري، لكن لا خطورة منها، هذا الجبل يحتوي على المدافع الثقيلة والدبابات وراجمات الصواريخ، وهي لا تستطيع رصد الأهداف ليلاً في هذا الجو الشتوي الشديد البرودة، حيث تصل درجة الحرارة إلى 6 تحت الصفر، توغل الرتل داخل القرية، وصار مكشوفاً للجبل الذي يتمركز عليه الحرس الجمهوري. فجأة رصاصات موجهة بعناية اخترقت الرتل، ركض بعض الشباب للأمام وتراجع بعضهم للوراء متسائلين بدهشة: أهي قناصات حرارية جديدة؟! كيف رأتنا؟! وصاح أحدهم منادياً أبا محمد: “أنت ابن هذه القرية؟ ألا يوجد طريق آخر نسير فيه بعيداً عن مرمى القناصات الجديدة؟” بينما دارت أسئلة كثيرة في رؤوس من تراجعوا للوراء.
استعرض أبو محمد في ذاكرته كل دروب القرية، الرئيسة منها والفرعية والزراعية، وأجابهم بوجوب السير باتجاه مجرى نهر بردى، فالطريق هناك مغطاة بأشجار الحور والدلب والصفصاف، سؤال آخر من الموجودين: وهل هناك خطورة في المسافة الفاصلة بين موقعنا هذا ومجرى النهر؟ نعم، ولكن يجب علينا الوصول إلى النهر.
اتفق أعضاء الفريق على اللقاء في مجرى النهر، ركض الأول فأطلقت عليه رصاصة لم تصبه، تبعه الثاني ووصل بسلام، أبو محمد رسم في مخيلته مكان كل خطوة سيخطوها لينجو من الرصاص، ركض فتعثرت قدمه بقضبان حديدية مرمية بين الزرع والشجر، انكب على الأرض وسقط عن كتفه الكيس الذي كان يحمله، وأطلقت عليه ثلاث رصاصات مرت إحداها على بعد سنتيمترين من رأسه، أزَّت قرب أذنه فاقشعر جسده من صوتها، بلا شعور عاد أدراجه إلى الوراء، تمهل قليلاً ليلتقط أنفاسه ثم ركض ووصل سالماً، التقى الجميع عند مجرى النهر بعد مغامرة احتمالُ الموت فيها أقوى من احتمال الحياة.
وبعد مسافة قصيرة استوقفت الموكب طلقات من ذات القناصة، كانت تطلق رصاصاً متفجراً عرفه الرجال من تشظيه حين يصطدم بالصخور، فانسحبوا إلى الضفة اليمنى من النهر، صاروا محاصرين في مكانهم، وكلٌ منهم له أسباب تدفعه لاجتياز المخاطر ودخول القرية، أبو محمد يريد الحصول على الأخبار والصور من الهيئات المدنية ليعود بها إلى قناته الإعلامية ليبعث الطمأنينة في نفوس آلاف المنتظرين، والآخرون يريدون إنقاذ جريحهم المهدد بالموت لخطورة حالته، القناصة حددت مكانهم بدقة، فكانت ترسل وابلاً من رصاصها عند كل حركة، لا بد من الانسحاب من هذا المكان. سار الرجال رجوعاً في مجرى النهر، والحيرة تلفهم لا يعرفون ما الذي يتوجب عليهم فعله للخروج من هذا الحصار، وصلوا إلى بناءٍ مشيد على الضفة، فساعد بعضهم بعضاً في تسلق الجرف حتى اكتمل اجتماعهم داخل ذلك البناء، بعد قليل خرج أبو محمد من فتحة في الجدار ليستكشف المكان ويتأكد إن كان المكان مكشوفا لقناصات الجبل، جثى على ركبتيه ثم انتصب واقفاً، انقطاع الكهرباء والظلام الدامس في هذه الليلة من كانون يسهل عمل المناظير الليلية في تحديد أهدافها, فجأة دوى انفجار رصاصة، ودوت صرخة ألم من أبي محمد، لقد أصيب.
صراخ أبي محمد اقتحم النافذة ووصل إلى أصدقائه المختبئين داخل البناء على حافة النهر، رصاصة أطلقت من ثكنات الجيش في ذلك الظلام الدامس فأصابت مفصل قدمه، تعاون الشباب على فتح كوة في الجدار، سحبوه من ذراعيه وأدخلوه إلى البناء، وقد تشبعت ثيابه بنزيف دمه، خلع أحدهم عمامته عن رأسه واستخدمها كضمادة، شدها بقوة على الجرح ليوقف النزف وسط أنين الجريح وآلامه، راحوا يهدئون من روعه ويواسونه بطيب الكلام، شعر أنه بدأ يفقد الوعي، نظر إلى الدماء التي تبلل ملابسه فأيقن بنهايته، إذ تذكر أحد رفاقه الذي أصيب مثل إصابته ونزف كل دمه فكانت نهايته، استجمع قواه وهمس لأقرب الأصدقاء إليه: اسمع وصيتي، وسرد وصيته لأهله وذويه، أخبرهم بما له وما عليه من ذمم وحقوق، وأوصاهم ألا يستعجلوا بدفنه، طلب منهم أن يرموا جثته في نهر بردى, هذا النهر بالنسبة إليه ليس مجرى مائياً يمر من قريته فحسب، إنه رمز وشرف وأيقونة، حتى أنه أطلق على نفسه اسم البرداوي وعمل ست سنوات تحت هذا الاسم تكنياً ببردى.
أنهى تلاوة وصيته وغاب عن الوعي، شعر بخدر يسري في كامل جسده، مسح رفاقه وجهه بالماء فانتعش، شعر بالعرق يتصبب غزيراً من جبهته وكامل جسده رغم برودة الجو التي تقارب درجة التجمد، قال صديقه: نريد منك مساعدتنا لننقلك إلى مكان آمن، لقد سكت صوت القناصة، وهذه فرصة مناسبة لنا، حمله الأصدقاء وركضوا به إلى منزل قريب، مكثوا قليلاً ثم انتقلوا إلى منزل آخر، المكان مكشوف للقناصة دلهم على ذلك إطلاق الرصاص حين فتح أحدهم هاتفه المحمول، ويُخْشى من قصف المنزل الذي يقيمون فيه، حملوا الجريح مرة أخرى وركضوا به إلى كهف محفور في الجبل. الكهف مكان آمن محمي من القصف والقناصات، مكثوا فيه إلى ما بعد انتصاف الليل، اتصلوا بفرقة الإسعاف وجلسوا ينتظرون والجريح يغيب عن الوعي حيناً ويعود حيناً، يقطع الوقت بقراءة ما يحفظ من سور القرآن الكريم، وفي الفجر وصل المسعف، قص ثيابه، وكشف على موقع الإصابة، أعطاه بعض حبوب الدواء وحقنة مسكنة، ثم مد يده إلى داخل الجرح, أخرج منه ما يجب إخراجه ثم لفه بضمادة واستأذن بالانصراف، سيذهب إلى أقرب قرية ليأتي منها بسيارة تنقل الجريح إلى قرية (دير قانون) حيث المركز الطبي لإجراء العمل الجراحي.
انجلت ظلمة الليل، توقف عمل القناصات الحرارية وبدأ عمل المدافع ومنصات الصواريخ والطائرات التي أشبعت قريته قصفاً و دماراً، كانت أصوات الانفجارات تصل إلى مسمعه أقوى من حقيقتها، إذ يتردد صداها بين جدران الكهف الصخرية الصماء.
انقضى النهار، ولم يأتِ أحد لإخراج الجريح من ذلك الكهف، بعد انتصاف الليلة التالية مرَّ بالكهف مجموعة من الرجال يقصدون قرية الجريح التي كانت هدفاً لكل أنواع الأسلحة الثقيلة طوال النهار، توقف المجموعة في الكهف لتستخبر ممَّن فيه عن سلامة الطريق، أخبروهم بالقناصة المتمركزة في الجبل، لكنهم أصروا على الذهاب، بعد ساعتين عادوا أدراجهم، إذ فشلوا في اختراق مجال القناصة ولا بد من عودتهم من حيث أتوا، واقترح قائدهم حمل الجريح معهم في رحلة العودة.
خلعوا باباً حديدياً، أضجعوا الجريح عليه بعدما حشوا فمه بخرقة خشية أن يفضحهم صوت أنينه، وانطلقوا يحملونه على الأكتاف كأنما يحملون نعشاً، يمشون بحذر شديد لئلا يتدحرج جسده على اللوح الحديدي فيسقط أو يتألم فيصرخ ويلفت إليهم انتباه القناصين، قطعوا نهر بردى ثم توغلوا في الطريق الزراعي الذي سلكه في ذهابه ماشياً على رجليه السليمتين.
كان الجريح يفكر في نفسه: ماذا لو أُطلِق الرصاص فأصاب أحد حاملي هذا النعش؟ هل سأسامح نفسي طوال عمري؟ لكن.. لماذا أرى الطريق طويلاً جداً وكان بالأمس قصيراً قطعته في مدة قصيرة؟ هل ترانا سنصل بسلام؟ هل سننجو؟ كانت هذه الأفكار تقتحم ذاكرته في نعشه، ساعات كانت أصعب ساعات حياته، بل أصعب من لحظة إصابته ومن مشهد قريته المدمرة.
وأخيراً وصلوا إلى البناء الأول في القرية، مرحلة الخطر انقضت، وها هو الطبيب والممرض ينتظران على حافة الطريق، هنآه بالسلامة وركبا معه سيارة كانت مركونة بجانب البناء، لم يجد في قاموسه كلمات تفي بالشكر للشباب الذين تحملوا المخاطر وجازفوا بأرواحهم لإنقاذه، في المستشفى أدخل إلى غرفة العمليات، وأخرج منها مخدراً، فتح عينيه حين استعاد وعيه، ليجد نفسه في المنزل الذي تقيم فيه أسرته محاطا بأبيه وأقاربه وأصدقائه، الجميع فرحون يهنئونه بالسلامة.
مكث بينهم يومين، رجله مثبتة بأجهزة مؤقتة لأن الأطباء لم يعرفوا نوعية الكسر الذي تعرضت له عظامه، بسبب غياب الأجهزة الطبية، لا بد في هذه الحالة من نقله إلى مدن الشمال السوري ليكمل علاجه.
حزم ما يحتاجه من متاع وأدوات وخرج من قريته ووصل مع مجموعة من الجرحى إلى مدينة إدلب وأجريت له عملية جراحية في اليوم ذاته، صحا منها ليجد رجله مصلوبة على جهاز معدني يقارب طوله المتر وقد اخترق العظم، فكان ألمه منه أشد من ألم الرصاصة.
بقي على هذا الحال في مدينة إدلب حوالي 65 يوماً تنقَّل فيها بين ثلاثة مشافي من مشافي المدينة وريفها، بعدها أُدخل إلى الأراضي التركية لإكمال العلاج، وبقي في مدينة حدودية مع سورية حوالي 70 يوماً، وانتقل بعدها إلى مدينة إسطنبول، وبعد مراجعة المشافي التركية لمدة ستة أشهر تم إجراء عمل جراحي له في قدمه، حيث قام الأطباء بانتزاع الجهاز المعدني من قدمه الذي تم تركيبه له في مدينة إدلب قبل عشرة أشهر من ذلك التاريخ.
اليوم أكمل عامه الأول برفقة إصابته وقدمه التي لا تقوى على فعل شيء.
عام كامل قضاه في مشافي إدلب وتركيا بصحبة الأدوية والكرسي المتنقل أو العكاز والمرافق الشخصي لقضاء وتلبية احتياجاته.
عام مليء بالجراح المثقلة، بعضها جراح جسدية وبعضها روحية، ولا يدري كم من الشهور أو الأعوام سيتبع هذا العام حتى تنتهي فترة استشفائه وتتعافى قدمه.