خالد العمر |
لم أستطع فتح عينيّ بسهولة وجسمي ملتصق بالأرض، كل شيء كان صعباً عليّ حتى التنفس، لم أعلم السبب تحديداً، لكني كنت تائهاً تماماً، وعندما تمكنت من فتح عينيّ قليلاً لم أبصر سوى غبارًا يحجب عليّ الرؤية. آخر ما أتذكره أني ذهبت إلى النوم بعد صلاة الفجر فحسب.
شعرت بثقل في رأسي يكاد يفلقه نصفين، وطنين لا ينقطع من أُذنَيَّ يشوش عليّ سمْعَ ما يدور حولي، غير أنني لم أعِ بعدُ ما يحدث، هل هو حلم أم حقيقة؟!
استجمعت كل ما أملك من قوة ونهضت، وبعد كل خطوةٍ كنت أقع، وما هي إلا بضع خطوات حتى خارت قواي وجثوت أرضاً على ركبتيَّ وبدأت الصورة تتضح قليلاً أمامي، لقد قُصف المنزل وانهارت الجدران وأسقفها التي شيَّدتها بكل ما أوتيت من أحلام.
نالت طائرات النظام السوري الجبانة كعادتها في الفترة الأخيرة من بيتي الذي أنهيت بناءه حديثاً، وقد ملأ الحُطام المكان ولا سبب لذلك أبداً، فبيتي البسيط ليس مصنعاً للأسلحة النووية، وأطفالي صغارٌ لم يصِلوا عمرَ الإرهاب الذي ينعتوننا به ويبررون من خلاله إجرامهم للعالم الذي يصدقهم، فلا ذنب لنا سوى أننا نقطن إدلب العصيَّة عليهم، التي باتت شوكة في حلوقهم، الصامدة بشموخٍ وعزة وقوة كزيتونها المبارك أمام بطشهم وظلمهم وأسلحتهم الفتاكة، إننا كالجذور المتأصلة بهذه الأرض لا تزعزعها الرياح العاتية.
كانت برهة فقط حين دارت في رأسي تلك الأفكار التي لابد أنها حضرتني من فرط القهر، ثم عاد الرعب ليطبق على صدري بقوة حين تذكرت أنه كان في البقعة كل ما أردته يوماً، منزل وزوجة وطفلان زينتهم بطفلة.
بعد تذكرهم سيطر الخوف على كل إحساسٍ بداخلي، وزاد شللي وعدم قدرتي على الحركة، ولم أبرح مكاني شبراً واحداً.
تجمع الناس حولنا كالعادة في كل قصف، وأخذوا يبحثون عن أفراد العائلة بين حطام المنزل.
كل أفواههم كانت تتحرك، لكني لم أسمع شيئاً حينها، ولم أجرؤ على الحركة لهول ما رأيت من دمار وللنتيجة التي توقعتها، لكني لا أريد تقبلها، لم أنظر إلى نفسي حينها، كل ما كنت أفعله وقتها التفكير بهم، بالأرواح التي تعلقتُ بها وكانت ماثلةً أمام عيني.
ما هي إلا دقائق قليلة حتى انتشلوا جثثهم واحداً تلو الآخر، مات كل ما أملك بصاروخٍ واحد، وانتهت كل أحلامي بلحظة قهر.
ما أزال كما أنا كأني متُّ أيضاً، فلا حراك لي ولا كلمة، لا أسمع سوى أصوات الأطفال وضحكاتهم وبكاءهم ونداءات أمهم عليهم وطريقة نطقها لاسمي، ولم أكن أرى سواهم، أشكالُهم ونموهم الذي انتظرته طويلاً، وابتساماتهم وجمالهم وكل تفصيلٍ فيهم.
لم أبكِ ولم تنزل لي دمعةٌ واحدة، بل بقيت صامتاً بذهول، فحتى البكاء لم يستطع حينها التعبير عن حزني، ولا الصراخ قادرٌ أن يفرِّج عمَّا بداخلي من كرب، فالمصاب جلل ولا مواسيَ لي حينها.
لطالما كان قلبي أربعةُ أجزاءٍ، لكنها تناثرت كلها أمامي، فكيف بقي محافظاً على نبضه لا أعلم؟!
وعقلي، لماذا لم يتوقف حينها أو ينفجر لشدة تفكيره بهم فقد مرَّ شريط حياتهم أمامي كأني مَن أصابته سكرات موتهم؟!
كان لي خمس أرواح، مات أربعٌ منها وبقيتْ تلك التي لا أريدها، ولا أعلم أبقيت معي حداداً على البقية أم لها مصيرٌ آخر؟! والحمد لله في كلا الحالتين.