كنت دائماً أتساءل لدى قراءتي الآيات الموجهة بخطابها للرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، تلك التي تبدأ غالباً بـ (قل)، عن مدى ارتباطها بنا، وإذا كانت مخصصةً وموجهةً للرسول وحده فقط، فكيف يكون القرآن الكريم خطاباً للعالمين أجمع في كل زمان ومكان؟!
وكانت أوائل آيات سورة المدثر لها نصيبٌ من هذه التساؤلات، فحاولت الربط بين معاني الآيات وتأثيرها على الرسول وحياته، وبين واقعنا الحالي، فوجدت أنَّ الاختلاف كان عبارة عن اختلاف أسماء وزمان ومكان لا غير، أما الفئة المقصودة والهدف المنشود فهو نفسه.
((يا أيها المُدَّثِّر))، كان الرسول وقتها هلعاً ومدهوشاً من هول الصدمة عقب نزول الوحي عليه، لأنَّه أمرٌ كبيرٌ ومهمةٌ شاقةٌ لم يكن قد ألفها من قبل، لكن آيات الله جاءت منبهة له بأن يخلع عن نفسه دثاره الملتف به، وألا يستكين للخوف والقلق من المستقبل.
في الوقت نفسه الآيات موجهة لنا أيضا بألا نكون من المدثرين، المدثرون بأحزانهم وأوهامهم ومخاوفهم، وأن نخرج من دائرة مشاكلنا الخاصة متخلصين من الأنانية لتكون لنا يد في رفعة هذا الدين، وليس من اليائسين القانطين من رحمة الله…
((قم فأنذر))، قوموا وأنذروا من حولكم، وانشروا الوعي بينهم، فعلينا أن نستفيق من سباتنا الدائم، لنعود ونكون خير أمة أخرجت للناس، ونجعل الحق سلاحنا الذي نحارب ونواجه الظلم والفساد به…
((وربك فكبر))، كبِّروا وعظموا شأنه في حياتكم، واجعلوا رضاه في قائمة أولوياتكم، وتذكروا أنَّه مهما كبرت مشقة ووعورة الطريق فالله أكبر!
((وثيابك فطهر))، أي طهروا أنفسكم من أدران الذنوب والهوان باطناً لينعكس على ظاهركم، فالتطهير هنا معنوي أكثر من أن يكون مادياً، تصالحوا مع أنفسكم في محاولة للوصول إلى السلام الداخلي ليظهر أثره على سيماكم…
((والرجز فاهجر))، اهجروا الأوثان والأصنام التي تشكل عائقاً في حياتكم وتلهيكم عن هدفكم الأكبر والأسمى، سواء المادية منها أو المعنوية، واجعلوا الله نصب أعينكم دائماً مستغنين عمَّن سواه، ومؤمنين بدعمه وسنده الذي سيمدكم بالثقة والأمان ويبعد عنكم كل خوف، فهو جلَّ علاه من قال: ((لا تخافا إني معكما أسمع وأرى)).
((ولا تمنن تستكثر))، على الرغم من وجود أكثر من فهم لهذه الآية، إلا أنَّها تتكامل جميعاً مع بعضها البعض، فالله هنا يريد أن ينبهنا إلى عدم التمنن عليه بكثرة الأعمال التي نقوم بها، أي نظن أنَّنا نفعل أكثر ممَّا هو مطلوب منَّا، في حين إنَّنا لا نكاد نستطيع ردَّ فضله علينا مهما حاولنا ذلك.
يمكن فهم الآية من منظور آخر، أي ألا نمنن الناس بأعمال الخير التي نقدمها لهم، فنحن كخلفاء الله في الأرض، نتبع منهج الأنبياء والرسل جميعاً في دعوتنا قائلين: ((إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد))، وبالتالي سيزيدنا الله بفضله ودعمه لنا، لنقوم بالأعمال الصالحة بشكل أكبر وأوسع.
وفي النهاية ((ولربك فاصبر))، أي بعملنا هذا كله، وبتحملنا المصاعب، نستمدُّ الصبر والقوة من الله وحده، مؤكدين هذا الأمر عبر ترديدنا في كل صلاة: ((إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين))، جميعنا نستعين به وحده في عبادتنا، ونصبر على كلِّ ما أصابنا ويصيبنا في سبيله، مؤمنين بأنَّ ذلك من عزم الأمور، وبأنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين..