جاد الغيث
ليس أبي، لكنِّي تألمت من أجله مرتين؛ مرة حين اختفى فجأة في ظهيرة أحد الأيام، ومرة أخرى حين كان صديقي يبحث عن وجهه بين وجوه الشهداء، لعله يرى وجه أبيه، لكنه لم يرَه.
آخر مرة التقت عيناهما قبل أربع سنوات، عمر طويل كفيل بمحو كلِّ الذكريات لو كان الغائب شخصاً عادياً في حياتنا، لكن كيف ينسى صديقي من رعاه ورباه وقاسمه أروع اللحظات؟!
ما يزال صديقي يحلم كلَّ ليلة بأبيه، يعانقه في المنام دون كلام، ويبكيان معاً حتى يأتي الصباح وتصحو معه أوجاع جديدة وآمال تتبدد يوماً بعد يوم، فما يزال مصير الأب مفقوداً وما يزال السؤال معلقاً كحبل المشنقة، متى يعود؟
حتماً سيعود، فهناك من رآه قبل عامين في سجن تنظيم داعش، فهل يفرج عنه قريباً؟
ربما غداً وربما بعد عام، احتمالات تشبه السير على حافة سكين حاد وطويل، وجزء من القلب يحترق، وجزء من روح الذكرى يتوهج بين حين وحين.
مأساة من فقدوا أحبتهم أمام أعينهم تبدو أكثر نعيماً من فاجعة اختفاء إنسان تحبه كصديق أو قريب لا تعرف هل هو حي أم ميت؟ فكيف لو كان المفقود أباً أو زوجاً أو حبيباً؟
أعداد من استشهدوا لا تعد لا وتحصى، لكن من تبقى من أهلهم يطمئنون بعد شهور لرحيل أحبابهم، حتى لو كان رحيلهم على شكل أشلاء تبعثرت ثمَّ عادت لتلتقي في قبر يضمها، قبر يزينه الزائر ببعض الورد والأوراق الخضراء ويخاطب صاحبه تحت التراب، يبثه أشواقه وأحزانه ويقاسمه عذاب الفقدان وقبل أن يمضي يقرأ على روحه سورة الفاتحة.
لكن أين أبي لأزوره وأقاسمه آلامي وآمالي، هذا ما قاله صديقي، وأبت دمعة إلا أن تسقط من عينيه الواسعتين، أعلم أنَّه كان يبكي في داخله على مدى عمق الغياب وقهره، ومثله حال أمه الصامدة حتى اللحظة التي ترى في صديقي وجه أبيه فتخاطبه كل يوم بخطابين ممزوجين بالأمل، الخطاب الأول خطاب الأب المفقود، والثاني خطاب الابن المحاصر.
صبرا يا أمي، غداً، أو بعد غد، أو بعد أسبوع يفتح الطريق، سأعود إليك وربما يعود أبي أيضا.
أمل نعيشه جميعنا يا صديقي، وأنا وكلُّ المحاصرين والمفقودين والتائهين في قلب ثورة ما كانت تريد إلا سلاماً وحرية، فأمطر نظام الأسد ثوارها ظلاماً ودموية.