يتمُّ حسم الصراعات بالقوة الناعمة، أمّا القوة الخشنة فهي التي تتوصل إلى الهدنة فقط في أحسن أحوالها ولو كانت على شكل نصر عسكري لأحد الطرفين، فإذا لم يتمكن أحد الفريقين من حسم المعركة في فترات الهدنة أو النصر المؤقت ثقافياً وأخلاقياً بإعادة تشكيل وعي الفريق الآخر ومبادئه وطموحاته سيتم إعادة توليد الصراع بشكل أكثر عنفاً.
إن ما يجري في الفترات التي تشبه الوقت الذي نعيشه هو تكثيف كافة الجهود الدبلوماسية والسياسية والثقافية والحوارية، من أجل إعادة صناعة وعي الناس للقبول بمفاهيم الحل طويلة الأمد على الشكل الذي يُرضي من يقوم بصناعة هذا الحل، وتقديم بعض الطروحات على أنها حقائق واقعية لا يمكن تجاوزها من خلال المنابر المختلفة لتهيئة الناس للقبول بها على أنها أفضل الممكن، وخير من لا شيء.
تنشط المنظمات في هذا الحقل وكذلك الإعلام والتيارات السياسية وبعض القوى العسكرية والمؤسسات الأهلية سواء كانت تدري ما تفعله، أم أنها وقعت ضحية تكرار ما تم ممارسته عليها من إعادة تشكيل للوعي والمفاهيم، وتكثر الندوات الحوارية والمجتمعية لتكرر الكلام نفسه على عدد كبير من الناس في أوقات قصيرة وعن طريق مختلف النشاطات، ويتم تعظيم قيمتي الأمن والاستقرار، مقابل جعل الأهداف الحقيقية للناس ترقد في خانة الطوباوية والمثالية المفرطة والطلبات المستحيلة، وبدلاً من دراسة الخطوات التي تحقق الأهداف، يتم طرح البدائل التي تنهي الوضع الراهن فحسب مقابل وضع قادم غير واضح المعالم، يتم التركيز فقط فيه على الجوانب الإيجابية فقط وغير المضمونة بالضرورة.
إننا اليوم نقبل بأمور عديدة بعيدة عن مطالبنا الأساسية ونجد فيها حلاً فقط بعدما اتعبنا النضال، وفي لحظات التعب هذه يتم هدم كل شيء إذا لم تستمر معركة التوعية تجاه التمسك بالأهداف، وعدم السماح بتمرير وعي جديد يجعلنا نرضى فقط بما يجلب الاستقرار ونتخلى عن الكثير من الأشياء المتعلقة بالهوية والانتماء وإرادتنا الحرة في شكل سورية القادمة، واستبدالها بأشياء نقتنع بها لكثرة طرحها بأساليب متعددة بين العقلانية والواقعية والحلول المفروضة التي يجب أن نحسن استغلال ما نجده
قد تكون الثورة كأداة قد سقطت حقاً، أو ضاعت في فوضى الإيديولوجيات والتدخلات الدولية، وهذا شأن الأدوات، هي أشياء زائلة عبر الزمن، لكن الأهداف والغايات والرسالة التي نحملها ستبقى باقية ما بقينا نحن، يحميها تعلقنا بها وقدرتنا على ابتكار ألف طريقة وثورة قادمة لإنفاذها وجعلها واقعاً وحقيقة.
نحن من يجب أن نصنع الواقع، لا أن نرضى بالواقع على أنه شكل الحياة الذي لا يمكن تغييره، وإلا لما خطونا بالأصل تجاه التغيير.
إن الواقعية الحقيقية هي تحويل ما نؤمن به إلى حقيقة، أما الواقعية الكلاسيكية فأعتقد أنها من الماضي فحسب، ذلك الواقع الذي لا يستطيع أحد تغييره حقيقة لأنه انتهى، لكنه أيضاً لا يستطيع أن يمتد إلى المستقبل.
المدير العام | أحمد وديع العبسي