أعمل معلمة في قبو صغير يضج بضحكات البراءة، أقضي وقتاً جميلاً مع الأطفال، اضطررنا لاعتماد ذلك المكان الضيق ليكون روضة أطفال حفاظاً على حياة الأطفال من أبواق الحرب وضربات الطيران، لم يعد بعض الأهالي يجرؤ على إرسال أولادهم إلى المدرسة، بسبب مجزرة حاس التي وقعت في إحدى المدارس، وأدت إلى مقتل 22 تلميذاً و6 مدرسين، إضافةً إلى مجازر أخرى حصلت في ريف إدلب.
كل الأمور كانت تمشي بيسر، إلا أن هناك مشكلة اعترضتني مع واحد من الطلاب، طفل صغير ذو ست سنوات يُدعى مجد، ظلام الليل في شعره وعينيه أشبه ما يكون بوريقات الخريف البنية المتساقطة، يرتدي معطفاً بنياً وشارة الشجرة الخضراء والهلالين منصوبةً على صدره الأيمن.
لا يجيد ذلك الطفل شيئاً سوى مقاطعة درسي بالبكاء والصراخ، يعنف أصدقاءه كأنهم أعداؤه، لطالما خلقت تصرفاته الغريبة في نفسي كثير من الأسئلة، بدوري حاولت معه بشتى الوسائل لكن للأسف كل ذلك كان دون جدوى. تعبت منه ونفذ صبري، أصبحت اشتاط غضبًا كلما رأيته، وصل بي الحال إلى أن أتشاجر مع أصحاب الروضة لإخراجه منها.
مرَّت أيام على الروضة ومجد غائب عنها، تواصلنا مع أهله، فعلمنا أن ذلك الطفل قد أجريت له عملية، ساقني فضولي إلى منزله بحجة الاطمئنان عليه، وصلت لأرى نفسي أمام منزل وسط سوق شعبي تملؤه الزحمة والضجيج، وما هو إلا أربع جدران مهترئة مسقوفة بلوح رقيق من الخشب، يفتقر ذلك المنزل لكثير من مقومات الحياة. اختاره أفراد عائلة مجد منذ سنتين ليعيشوا فيه بعد أن نزحوا من قريتهم بسبب تقدم جيش النظام.
عند دخولي المنزل كانت هناك فقط جدة مجد، ومجد كان يغط في نوم عميق في الزاوية تحت غطاء، فرحت العجوز بزيارتي وبدأت تقصُّ لي أحاديث عن عائلتها ومن بينها حادثة اعتقال والد مجد: “لقد كانت آخر مكالمة بيننا وبين والد مجد منذ ست سنوات، كان على طريق سفر إلى لبنان قاصداً العمل وطلب الرزق، بصوت حزين ممزوج بالخوف كان يطمئن على حال صغيره مجد ذي الخمسة أيام ويوصي أم مجد به، وماهي إلا دقائق لتنقطع المكالمة دون أي مبرر، بعد جهد جهيد علمنا أنه اعتقل، وبعدها انقطعت أخباره عنا، ربما هو على قيد الحياة أو….”.
أجهشت تلك العجوز بالبكاء متحاشية نطق الاحتمال الأسوأ، وبدأت تذرف دموع الحسرة على حظ ابنتها العاثر التي لا تزال في منتصف عقدها الثالث، وغاب عنها زوجها قبل أن يمضي عام على زواجهما. أما أنا فخطفت ناظري صورة والد مجد المعلقة على الجدار، بدأت أتأمل ذلك الشخص الذي قدر له أن يكون من بين 220 ألف معتقل. وذلك الرقم القابل للازدياد كشفته الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
أكملت لي العجوز سردها عن حياة ابنتها المسكينة التي تضطر إلى أن تغيب عن ابنها سبع ساعات لتعمل في محل ألبسة علّها تلبي بعض احتياجات طفلها، وتمر تلك الساعات كالعذاب على الجدة بالتعامل مع مجد، فهو يخيل له أن أمه لن تعود. تأكدت أني لست الوحيدة التي استصعبت التعامل مع ذلك الصغير، فأمه وجدته تذوقان الويلات لترضيانه، فإذا قصرتا معه بشيء يصفعهما بعبارة “لأنه ليس لدي أب” مُرفقاً إياها بموجة من البكاء.
لو كنت أعلم أن سبب سلوك مجد هو خوف يتملكه موهماً إياه أن أمه ستضيع منه كما حصل لوالده سابقا، لما غضبت من بكائه ولا خيرت أصحاب الروضة بيني وبينه، فما هو إلا روح مكتئبة تفتحت عيناها على اليتم بسبب الحرب.
ذهبت إليه بهدوء لأقبل جبينه وتبعتني جدته وهي تكمل أحاديثها، استيقظ الصغير مجد على أصواتنا، لكن على غير عادته كان مبتسمًا وقال وهو يهز راسه “رأيت أبي في منامي”.
تعجّبنا منه وسألناه: كيف عرفت أنه أبوك؟ أجاب: “كان يحملني على كتفه ومعه مأكولات لذيذة، أليس هذا ما يفعله آباء رفاقي عندما يأتون إلى الروضة؟”