بقلم أنس عزت
قال الله -سبحانه- : (إنا هديناه السبيل: إمّا شاكرًا، وإمّا كَفُورًا).لعل صاحب التذوّق لكلام الله -سبحانه- يقف عند هذه الآية متأملا: لماذا جاءت “شاكرًا” على صيغة اسم الفاعل، على حين جاءت “كَفورًا” على صيغة مبالغة اسم الفاعل، وكان الأولى بحسَب الظاهر أن يكون الاثنان اسم فاعل أو مبالغة اسمِ فاعل، أي أن يقال: إما شكورًا وإما كفورًا، أو إمّا شاكرًا وإمّا كافرًا؟ولا بد قبل الجواب من التذكير بأنّ صيغة اسم الفاعل لا تدل على المبالغة في الفعل، مثل: شاكرًا، تدل على الشكر وعلى من قام بالشكر، لكن ليس فيها معنى المبالغة. أما مبالغة اسم الفاعل فإنها تدل على المبالغة في الفعل، مثل: كَفُورًا، تدل على فاعل الكفر وعلى الكفر في حال المبالغة والإكثار منه.أمّا الجوابُ نفسُه فللمفسرين فيه مذاهب، غير أني استطرفْتُ جواب الإمام العلامة جمالِ الدين السبكيِّ (ت755) إذ رفع إليه الإمام الأديب الأريب صلاح الدين الصَّفَدِيُّ (ت764) سؤالًا ونظمه شِعرًا، وكان مما قال فيه:فكّرتُ، والقرآنُ فيه عجائبٌ بهَرَتْ لمن أمسى له مُتدبِّرافي “هل أتى” لِمْ ذا أتانا “شاكرًا” حتى إذا قال “الكفور” تغيّرا؟فالشكرُ فاعلُه أتى في قِلّةٍ والكفرُ فاعِلُه أتى متكثّرَافعلامَ ما جاءا بلفظٍ واحدٍ؟ إنّ التوازنَ في البديع تقرّرالكنّها حِكَمٌ يراها كلُّ ذي لبٍّ، وما كانت حديثًا يُفتَرىفكان جواب العلامة السبكي:قبّلتُ أسطُرَ فاضِلٍ بَهَرَ الورى ممّا لديه عجائبٌ لن تُحصَرَاقد نال في علم البلاغةِ رُتبةً عنها غَدَا عبدُ الرّحيم مُقَصِّراوأراد منّي حلّ مشكلةٍ غَدَا تِبيانُها عندي كصبحٍ أسفراوجوابُه أنّ الكفورَ، ولو أتى بقليلِ كفرٍ، كان ذاك مُكثِّرَابخلاف مَن شكر الإلهَ فإنّه، بكثير شُكر، لا يكونُ مُكثِّرافإذًا مراعاةُ التّوازُن ههنا محظورةٌ لمن اهتدى وتفكّراوحاصل جواب العلامة السبكي أن الإنسان مهما اجتهد في الشكر فإنه لا يستحق وصف المبالغة في الفعل “شكور”. فنعم الله عليه أكثر من أن تحصى. ولذلك جاءت “شاكرًا” بدون مبالغة. أما الذي يكفر نِعمَ الله فإنه مهما كان هذا الفعل قليلا منه يُعَدُّ بذلك مُكثِّرًا. فنكران نعمة واحدة من نِعَم الله وجحدها كاف لأن يُوصف الإنسان بالمبالغة في كفران نِعَم الله “كفورًا”.ومن أراد الرجوع إلى القصة في مصدرها فلينظر كتاب “أعيان العصر وأعوان النصر” للإمام الصفدي ج2 ص276 وما بعدها.