كان جون غوتي زعيم المافيا في عائلة غامبينو يلقب بالتيفال لأن التهم الموجهة إليه في المحاكم كانت لا تلتصق به أبداً، ولكن غامبينو هذا لا يمثل شعرة في مفرق بشار الأسد “تيفال” الشرق الأوسط.
ولو قُدّر لجون جوتي أن يعيش ليرى بشار الأسد لاعتراه الذهول وهو يرى كيف ينجو هذا المجرم التافه زعيم عصابة القتل السورية من عقوبة ارتكاب جرائم القتل الجماعي يوماً بعد يوم.
بعد مرور خمس سنوات من اندلاع الثورة ضد الأسد، والتي تعرض فيها أكثر من ٤٥٠ ألف شخص للقتل والقصف والإبادة بالغاز لمجرد رفضهم أن يحكمهم ديكتاتور وقاتل، لا بد للمرء من أن يستغرب من تهليل الكثيرين للأسد بوصفه حامياً للأقليات المهددة لا بل كمنقذ للتحف الأثرية. فمثلاً رأينا عمدة لندن بوريس جونسون يكتب مزهواً بعد الهجوم الذي شنه حلفاء الأسد لاستعادة مدينة تدمر: “مرحى لكم. أحسنتم ثابروا.” ورغم أن جونسون قال في مقاله من باب الإيتيكيت أن الأسد وحش وقاتل ودكتاتور مثل والده وأنه يحكم بلاده بالحديد والنار والإرهاب، ولكن هذا لن يمنعنا من تشجيعه والهتاف له.
وعلاوة على الإشادة بالأسد بوصفه رأس حربة في المعركة ضد الإرهاب الجهادي، نرى أن إدارة أوباما تتراخى خصوصا في الآونة الأخيرة في إصرارها على ترك الأسد للسلطة. ووراء الكواليس كان سياسيون من الأوزان الثقيلة مثل روب مالي (وهو حلّال المشاكل المفضل لدى أوباما في المنطقة) وبريت ماكغورك وآخرين كانوا يفعلون المستحيل لينتصر النظام عسكريا في حلب وفي أماكن أخرى في أرض المعركة السورية. وفي الواقع، يبدو أن روسيا وحلفائها على الأرض يحشدون قواهم للسيطرة على حلب، وكان رد الإدارة الأمريكية بمنحهم الغطاء الكامل بعد أن ادعت زورًا أن المدينة تحكمها جبهة النصرة بشكل أساسي. ويوم الاثنين نصح جون كيربي المتحدث باسم وزارة الخارجية جماعات الثوار في حلب أن يخرجوا من مواقعهم في المدينة خوفا من أن “يصابوا بالضرر”.
وحتى لو نظرنا إلى نظام الأسد الآن باعتباره حصناً منيعاً في وجه ضد تنظيم الدولة وجبهة النصرة، فالإدارة الأمريكية لا تخفي حقيقة أنه لا وجود لنظام الأسد من دون الأسد. وتعليقًا على زيارة وزير الخارجية جون كيري الأخيرة إلى موسكو، نقلت الصحيفة عن نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوڤ أن روسيا “وجدت لدى واشنطن تفهماً” أن “مستقبل الرئيس السوري لا ينبغي أن يكون على جدول الأعمال في هذه المرحلة.”
وذكرت تقارير نشرت مؤخراً في الصحافة العربية أن روب مالي تفاوض مع المبعوث الرئاسي الروسي الخاص الكسندر لاڤرنتييڤ حول شكل التسوية السياسية في سوريا. وقد ناقشا معاً خطة تقوم إلى حد ما على النموذج اللبناني لتقاسم السلطة، حيث يتقاسم الأسد و”المعارضة” التي ترضى بالتسوية السلطات التنفيذية والأمنية والتشريعية والقضائية. وقد شرح المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا هذه الخطة لوفد المعارضة الذي تفاجأ بها في جنيف فالأسد يبقى رئيسا للبلاد، في حين يتم تعيين ثلاثة نواب للرئيس تختارهم المعارضة يتمتعون بصلاحيات غير محددة بعد ـ وقد تكون صلاحياتهم تنفيذ ما يطلبه الأسد منهم وإلا قتلهم. وقد ذكرت تقارير أن روب مالي أطلع الرئيس أوباما على نتائج محادثاته مع الروس، والتي قد يكون الرئيس حملها معه في جولته الأخيرة في الخليج.
وفي حين تبدو سياسة أوباما في سوريا وكأنها استجابة للأحداث الأخيرة، إلا أنها متماشية تماماً مع الموقف الأصلي للبيت الأبيض. فالمقترحات التي تتضمن بقاء الأسد رئيسا للبلاد بسلطات يفترض بأنها محدودة لم تتوقف منذ عام 2012، وهو العام الذي أعلن فيه أوباما عن خطه الأحمر الشهير. وبحلول 2013 بدأ البيت الابيض يعبر علناً عن ندمه على دعوته الأسد إلى التنحي مصرّحاً لوكلاء وسائل الاعلام أن أمريكا “لا تسعى لمساعدة المعارضة للفوز بحرب أهلية”. وفي عام 2014 بعد اجتماع في البيت الأبيض دعا اثنان من أهم أركان ما تبقى من مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية ليزلي غيلب وفرانك ويزنر إلى إعادة تعريف “حادة وعلنية” لأهداف الولايات المتحدة، مع الدعوة للتعاون مع نظام الأسد ضد “التطرف الجهادي”. وقد عبر غيلب وويزنر عن وجهة نظر يفترض أنها وجهة نظر البيت الأبيض ايضاً وخلاصتها أن الرئيس الأمريكي، بعد أن كان “متسرعاً جداً وحاسماً للغاية” في الدعوة للإطاحة بالأسد “ربما يكون الآن على استعداد للتفكير في عملية انتقالية”، وهو ما عملت مؤتمرات جنيف على تحقيقه حتى الآن.
وبالعودة إلى زعيم المافيا جون غوتي فلا بد أنه سيكون مستغرباً غاية الاستغراب من مدى استعداد إدارة أوباما ومصفقيها المستأجرين في الصحافة لتجاهل نهر الدماء الذي يجريه الأسد تحت قدميه في مشهد يجعل أعتى زعماء المافيا يشعر بالرعب. فشهوة الأسد لسفك الدماء لا تقتصر على السوريين الذين يعارضون حكمه فقد سفك الأسد دماء الكثير من غير السوريين بما في ذلك الأمريكيين. فبعد وقت قصير من توليه السلطة، بدأ الأسد بتوجيه الجهاديين من جميع أنحاء العالم عبر سوريا إلى العراق لقتل الجنود الأمريكيين في أعقاب الغزو الامريكي للعراق عام 2003. وقد وجهت المخابرات الأسدية نفس الشبكة الإرهابية لضرب وتفجير أهداف في الأردن ولبنان. واستمرت التفجيرات والاغتيالات في لبنان بشكل مطرد حتى عام 2013، مما أسفر عن مقتل وإصابة عدد كبير من الضحايا المقصودين (ناهيك عن المارة الأبرياء). وكان من بين هؤلاء الضحايا عشرة مسيحيين بالإضافة إلى سلسلة من التفجيرات العشوائية التي استهدفت المناطق المسيحية تحديداً بقصد توجيه رسالة تحذير إلى هذه الأقلية. وفي عام 2012 حاول الأسد استخدام أحد شركائه من مسيحيي لبنان المدعو ميشال سماحة لزرع سلسلة من التفجيرات تستهدف مسيحيين ومسلمين سنة بهدف رفع التوترات الطائفية في لبنان ومن ثم تنسب التفجيرات إلى الجهاديين. وقد تم القبض على سماحة ولكن مدير المخابرات العامة الذي كشف المؤامرة قُتل في تفجير في مشهد مؤثر يشابه طريقة المخرج فرانسيس فورد كوبولا في التفجيرات السينمائية.
ليس الأسد قاتلاً عادياً ففي حين كان والده وهو من زعماء المدرسة التقليدية في الإجرام يذوّب أطراف ضحاياه في الأسيد، فقد قتل بشار آلاف الناس مستخدماً الغاز الكيماوي وقد فعل ذلك مرارا وتكرارا على مدى عدة أشهر والولايات المتحدة شاهدة دون أن تحرّك ساكناً. عندها فهم الأسد أن بإمكانه أن يفلت من العقاب مهما فعل لأن إدارة أوباما كانت ترفض التدخل في سوريا بأي ثمن. وعندما بلغ سيل بشار الزبى في هجومه الكيميائي الكبير في آب 2013 اعتقد الجميع أن القضية باتت منتهية. لكن أوباما بمساعدة بوتين، أخرج بشار من الورطة باتفاقية ذكية للغاية سمحت له بأن يتابع قتل الناس ولكن باستخدام غاز الكلور بدلا من غاز السارين.
مضت سنوات والأسد ينجو بفعائله في قتل السوريين وثالثة الأثافي هي أنه غدا شريكاً مهماً في محاربة الإرهاب حتى وهو يشارك حزب الله أرضَ المعركة. ليس ذلك فحسب فقد جادت قريحة بوريس جونسون بأن الأسد بطل “تحرير” آثار تدمر و”انتصاره هو انتصار لعلم الآثار”. ورغم أن شبيحته قطعوا الأعضاء التناسلية لصبي ذو 13 عاما وأرسلوا جسده المنتفخ المشوه إلى والديه، ولكن الأسد على الأقل يؤمن بـ”درجة معينة من الحضارة.”
والآن وبعد وصول عدد القتلى إلى ما يقرب من نصف مليون بالإضافة إلى ملايين اللاجئين كان الكثيرون منهم ضحية تطهير عرقي ممنهج، نكافئ الأسد بجعله جزءاً من عملية “الانتقال السياسي” في سوريا وبمشاركته في صياغة “دستور” جديد والترشح في “الانتخابات” التي سينظمها بنفسه. ووفقاً لوثيقة المبادئ التي وضعها مبعوث الامم المتحدة دي مستورا، سوف تعقد مؤتمرات للمانحين لدفع ثمن إعادة إعمار سوريا، التي حولها الأسد وأصدقائه إلى أثرٍ بعد عين، بينما يدفع العالم أيضا تكاليف الحفاظ على حياة ملايين اللاجئين الذين لحسن حظهم لم يدفنوا تحت الأنقاض. وبما أن الأسد سيكون جزءاً من عملية “التحول” مفتوحة الأمد في سوريا فلا شك أن الكثير إن لم نقل كل هؤلاء اللاجئين لن يستطيعوا بل ولن يرغبوا في العودة يوماً ما إلى سوريا.
فليتفضل زعيم المافيا غوتي ويرينا إذا كان يستطيع أن يتفوق على الأسد. فجُلُّ ما كان يأمل به السيد تيفال هو الظهور على الصفحة الأولى من صحيفة Daily News أو غلاف مجلة People أو أن يقيم حفله السنوي في الرابع من حزيران في منطقة كوينز. لكن لدى أوباما صفقات مهمة مع علي خامنئي وهو لا يريد لها أن تتأثر بشيء وطالما حصل الأسد على دعم شركاء أوباما في طهران، فهو سيبقى في منأى من العذاب ولن يقترب منه أحد.
المصدر:مركز الشرق العربي _ لندن