أزعجتني المزاودات التي تتكاثر يوماً بعد يوم باسم الثورة، كأنَّها الشماعة التي يجب أن تحتمل كلَّ تفاهاتنا وأخطائنا وزلاتنا ونخبويتنا المقيتة، بل والكوارث التي كنَّا نقوم بها مدّعين أنَّنا ثوار، إذ يجوز للثائر ما لا يجوز لغيره بحسب ضرورة الشعر والوزن والقافية.
يا سادتي بإمكان الثائر هنا اختزال الوطن في شخصه أو مجموعته التي ينتمي إليها، وبإمكانه أيضاً اختزال الحقِّ في تصوراته وآرائه وحريته التي يفسِّرها على مقاسه الخاص، ويجعلها في حدود الحرام والحلال عندما يضطر لذلك.
بإمكان الثائر هنا أن يصدر البيانات التي تخوِّن من يشاء، ويمنح صكوك الوطنية لمن يشاء، ويكفر من يشاء، ويشهد بالصلاح لمن يشاء، لا أهمية للدلائل هنا، فعلم الثورة الذي تتزين به أكتاف هذا الثائر، والتجربة القاسية التي مرَّ بها في مكان ما على هذه الأرض والخروج حياً، وبعض المطبّلين هنا وهناك لما يقوله الثورجي المتحذلق، أمور كافية لمنحه شرعية الثوار والحقّ على حدٍّ سواء.
وإذا حصل وأخطأ هذا الثائر، فلن يتهم بالخيانة كما يفعل هو مع الآخرين عادةً، بل سيكون ذنبه مغفوراً، لأنَّه ثائر (حقيقي)، لا يُبنى على خطَئه سوء نية، كما يكون الأمر مع غيره من الثوار (المزيفين).
أي داء هذا الذي نحن متشبعين به من مخلفات النظام وأمراضه؟! أي شعور فارغ بالفوقية والمعرفة والحقِّ الذي يعتري معظمنا؟! أي ثورة هذه القادرة على تحمّل سخافات من هذا النوع مستمرة في النهش بجسدها وترتجي أن تنتصر يوماً؟!
على الرغم من إيماني الشديد بالثورة كقضية لإيجاد الحقِّ كأداة بحثٍ مشروعة، كسلاح جامع في وجه الطغاة، إلا أنَّني لا أستطيع أن أستوعب أنَّه من الممكن أن تتحول إلى قيمة مجردة وفارغة وصفة يتمُّ تداولها كصكوك نخبوية مقيتة تدَّعي الحقَّ المطلق.
الثورة أداة، والاصطفاف خلف الأدوات هو اصطفاف خاطئ، هذه الجملة لن أملَّ من تكرارها حتى نبتعد عن هذا الشكل من الإيمان بالأدوات بعيداً عن القيم التي من المفترض أنَّ الثورة جاءت لتنقذها، وليس لتتربع على عرشها وعرش الوطن.
الثورة ليست قيمة، وليست وطن، إنَّما شيء يبذل في سبيلهما، والإيمان بالأدوات هو إيمان زائل، ذلك أنَّ الأدوات لا تدوم مهما بُذل في سبيلها، لأنَّ البذل حقيقةً لا يكون في سبيلها بل يكون في سبيل ما وجدت من أجله، وهذا هو ما يستوجب الإيمان والتضحية.
أنا لا أدعو إطلاقاً للتوقف عن هذه الثورة أو التخلي عنها أو عن جزء من أجزائها، إنَّما أدعو لفهمها بشكل أفضل، والتعامل معها كما يتعامل الفارس مع حصانه، لا أن تكون هي الفارس، ونكون نحن الأحصنة التي يتمُّ امتطاؤها.
المدير العام | أحمد وديع العبسي
1 تعليق
أيمن
رااااااااائع أبو إلياس الغالي