لا تنفع كلمات البطولة والصمود في مواقف كهذه، ليس جبناً أن تترك الأرض التي تحترق لتغادر لأخرى، وليست بطولة أن تترك النار تلتهمك عناداً ودفاعاً عمّا لا تستطيعه من أجل المقاومة فحسب، فعندما تنعدم أسباب النصر، ويتخلى عنك القريب قبل البعيد، ولا تأمَن غدر من هم بقربك يصبح الصمود عبثاً، والمقاومة هي تجارة الموت والتشرد.
المواقف الهشة تأكلها النار وتحيلها رماداً، حتّى وإن خضّبتها الدماء الصادقة، والوقوف بوجه التيار لا يستقيم دون جذور قوية وحجارة ضخمة تستند إليها، وإلا فالانكسار هو المصير، والمنكسرون لا تقوم لهم قائمة.
ليست دعوة للاستسلام، بل هي دعوة لأعمال العقل في المواجهة لا العاطفة، القضية لا تنحصر بأرض أو حدود، إن دفاعنا الذي خضناه منذ أول يوم ضد الظلم والاستبداد لم تكن له أرض تحميه ونحرسها، إنما كان صوتاً في قلوبنا أرعب الطغاة يوم هتفنا به فحشدوا علينا ما استطاعوا من البارود والنار ليقتلوا حلم الحرية في قلوبنا لا ليسلبونا الأرض التي يستعبدها من يقف فوقها.
ما نحمله هو رسالة مدافعة للظلم، لا حدود تُسقطها إن سقطت، ولا قوة تقدر أن تنزعها من أرواحنا، فالحفاظ على الأرواح أولى ألف مرة من صمود هش يرسم البطولات أمام العاجزين، ويجعل التغني بالموت عقيدة الأجيال القادمة.
والبطولة الحقة ليست بالموت، إنما في قوة العودة وعدم الاستسلام مهما حمل علينا الموت من جنوده، هي في قدرتنا على حماية كل أولئك الذين تنفسوا عبق الحرية، وحملوا ثأر الظلم والقهر؛ لأن النصر يوم الكرّة العظيمة لا يكون إلا بهم.
لا أحبذ إطلاقاً أن نكرر صور الأبطال الموتى الذين رفضوا أن تداس مدنهم إلا على دمائهم وهم موقنون بالهزيمة؛ لأن كل قتال لا يحمل احتمالات الانتصار في طياته هو عبث ومزاودة ومقامرة بمصير الناس وحياتهم، نحن نقاتل اليوم وكل ظهورنا مكشوفة سياسيًا وعسكريًا ومدنيًا ومعيشيًا، لا رماة على الجبال ولا سيوف في الميدان، أمواج من الناس فقط تتلاطم أمام النار ثم تذوي في عبث كبير
وقد تسألون متى تكون الواقعة وعلام ننحسر من أمام أعدائنا ولا أمل في الأفق، فلستُ أعرف لذلك جواباً سوى أنه ما دام الإصرار في القلوب والعزيمة تملأ النفوس فهو قريب، أمّا إذا كان انحسارنا استسلاماً وتسليماً لقضيتنا، فهو والموت سواء، إلا أنّ الانسحاب من معركة خاسرة سيحمي أجيالاً قادمة قد تحقق النصر الذي عجزنا عنه.
المدير العام | أحمد وديع العبسي