المعتصم الخالدي |
“المنتصر أصدقاؤه كثيرون، أما المهزوم فأصدقاؤه حقيقيون” مقولة مأثورة لنيقولا ميكافيللي فكرت فيها مليا وحاولت إسقاطها على شخصية ما، لِما حيرتني تلك المعادلة غير المتوازنة التي تجعل من المنتصر الواقعي منتصرًا زائفًا. لعل هذا هو الشعور الذي يعتري سماحة السيد.
حسن نصر الله الذي يحكم لبنان، وحزبه الذي يفرض واقعية سياسية بالقوة، لا يُجيد الهروب إلى الإمام أو التجمل وإخفاء توتره وخنقته، إذ كيف لحزب يحكم بلدًا له ماضٍ أسود من فصول لحرب أهلية ما زالت في الذاكرة اللبنانية أن يستحضر المأساة تحت القبة البرلمانية عندما يتكلم نائب مسيحي كسامي الجميل عن إيران ليغضب نواف الموسوي نائب حزب الله ويهاجم الراحل بشير الجميل ويتهمه بالعمالة لإسرائيل ويذكر التيار المسيحي بالدبابات الإسرائيلية في بعبدا؟!
وكيف لمنتصر أن يخشى من هجوم الآخرين؟! هل هي عقدة النقص التي يشعر بها السيد وحزبه وطائفته؟ وهل الواقعية المزيفة هي من اضطرت المنتصر للتحالف مع تيار مسيحي لا يرغب بنموذج مذهبي ديني كأفكار الحزب؟ أم هو السيد المبجل الذي دائمًا ما يُدخل نفسه في دوامات السياسة والدين ويتيه وتتيه أفكاره بين الوعظ واللاوعظ.
ومنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، دخل سنة لبنان في متاهة البحث عن زعامات سياسية “حقيقية” وكيان واحد موحد قوي يُعبر عن تطلعات وحقوق المسلمين، حينها ظن الحزب أنه انتصر وبدأ بتطبيق أفكاره وإيدلوجيته، لكنه دائمًا ما كان يصطدم بجدران المدنية اللبنانية المتجذرة في الوطن الصغير، فالحزب لم يتقن يومًا إلا الاغتيال والإقصاء وأساليب القتل وتأليف الشعارات الممانعة ورفعها وتذكير اللبنانيين بالمعادلات الخشبية المهترئة وغير المجدية.
سماحة السيد المنتصر والمقاوم للإرهاب على حدوده مع سورية لا مع إسرائيل، لا يستطيع أن يكظم غيظه عندما يهاجم أحدهم إيران، ولا يساعده برلمان يسيطر عليه أن يمتلك القليل من الهدوء، ليصرخ بنبرة تشبيحية مستحضرًا مرحلة حساسة في تاريخ لبنان لا يود لبنان أن يتذكرها.
فالحزب صاحب الحلم الإسلامي الشيعي لا يُبصر اليوم، وهو المنتصر حسب زعمه، أن برلمانه وما فيه من نساء من تيارات مختلفة لا يلبسنَ الحجاب ولا يلتزمنَ بلباس تأمر به عقيدة الحزب “النائمة تحت الرماد” ولماذا يستثير غضبًا إعلام المنتصر على مخرجة لبنانية وصلت إلى ترشيحات الأوسكار العالمية فقط لأنها تناولت مأساة اللاجئين السوريين التي يقف وراءها الحزب، وكيف لحركة إسلامية تدعي المقاومة أن يكون في برلمانها نائبة عن الحركة المدنية كبولا يعقوبيان تصل إلى البرلمان بدراجة نارية وخوذة؟! وهو نفسه، أي الحزب وشيوخ الحزب، من أفتى بزواج الفتاة في سن التاسعة وجعل الأمر طبيعيًا! أليس هذا بحد ذاته تناقض صارخ؟! وكيف يفشل المنتصر في تطبيق أفكاره وعقيدته على الأرض بينما ينجح المهزوم في ذلك؟!
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن فصائل المعارضة السورية التي يعتبرها الحزب من ألد أعدائه نجحت في تطبيق أفكارها وإيدلوجياتها المختلفة في الشمال ومناطق سيطرتها، وهي التي تُعتبر في الواقعية السياسية مهزومة على الأرض، هنا تفقد المعادلة توازنها، ينجح المهزوم ويفشل المنتصر.
سماحة السيد مخنوق وحزبه دائم التشنج ولا يجيد إلا المزاودة والمغالاة وبناء تحالفات هشة مع أعداء الأمس. هم نفسهم يدركون جيدًا أن تحالفهم مع الحزب “تحالف الضرورة ” لأنه وببساطة لا يمكن لتيارات تتبنى أفكار المدنية الغربية أن تتأقلم، وهي غير ضعيفة بالطبع، مع حزب إقصائي صاحب توجهات مخيفة، فمسيحيو لبنان لا يرغبون باعتقادي بنموذج “داعشي شيعي” في لبنان، ولا بهيمنة أحادية من جماعة أو طائفة على لبنان، لذلك انقسم المسيحيون وشكلوا تيارين مختلفين.
وبطبيعة الحال فإن سنة لبنان لا يحبذون مطلقًا التجربة الإيرانية ويعادونها، بالتالي لا يجدون الرغبة الواضحة في التفاهم مع السيد، ووجدوا أنفسهم في تحالف مع تيارات معارضة تحت مسمى 14 آذار.
وهنا بالذات اصطدم حسن نصر الله بواقعية مرة من الصعب تفسيرها، فأحلام شبابه بتحويل لبنان البلد الصغير إلى جمهورية إسلامية على العقيدة الشيعية تكون تابعة لولاية الفقيه في إيران تبخرت، وأوهام الثورة الخمينية في ذاته انتهت عندما فشل في ترويج أفكاره وتصديرها رغم “ضعف” أعدائه.
فعندما وصل الخميني 79 إلى حكم إيران استطاع أن يفرض ديكتاتورية قمعية على أساس ديني مذهبي ونجح في تحويل إيران من مدنية متحضرة إلى منعزلة ومغلقة وظلامية إلى حد كبير هذه الأشياء التي حققها الخميني فشل بها نصر الله وتراجع مضطرًا عن أفكاره السوداوية مخبئًا إياها في صدره وفي الضاحية الجنوبية فقط، ومتنازلاً ومتحالفًا مع من أسماهم يومًا “بالكفار” وعملاء الصهيونية.
ثم ليعود السيد المريض للتخبط والذهاب بلبنان إلى “مقامرة” جديدة، فالحزب المنتصر ببلد صغير واقتصاد ضعيف يدخل دوامة الحرب عبر جارته الكبيرة سورية ليقاتل إلى جانب نظام حليف له يمارس أشنع طرق القتل والتهجير والتعذيب والتشريد.
وهو هو نفسه الشيخ الملتحي مدعي المقاومة من قال إن قوته وصواريخه ستوجه يومًا إلى حيفا لا إلى حمص وإدلب وحلب.. نفسها قصة العمالة والتبعية التي عيَّر الموسوي بها شركاءه في الوطن، نسيها عندما قاتل سيده وطائفته إلى جانب طاغية.
ونفسها عقدة النقص التي تعيش بداخل السيد، وحزبه من دعاه إلى الذهاب لسورية من أجل قتل أطفالها ونصر رئيس يقتل شعبًا طالب بالتغيير.
هي نفسها أيضا الأوامر الإيرانية للحزب وسيده ليكون هناك الأحلام نفسها بل الأوهام التي تسكن في مخيلة السيد عندما يرى كم فشل في فرض واقعيته المزيفة على لبنان وأهله.
نفسها تلك الآهات لأطفال شردهم ولسوريين مساكين قتلهم عناصره بدم بارده، نفسها المأساة التي تحاصر سماحة السيد ولا تنفك تتركه متاهات الوهم التي عاشها ويعيشها في كل لحظة وأنفاق المقاومة المزيفة رهينة الأجندات الإيرانية.
تلك المأساة التي ستحرق لبنان وتضع حدًّا لأوهام وكوابيس سماحة السيد في يوم ما.